• تعاطي المخدرات وإنتاجها

    طلبت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية بكتابها المؤرخ 5/2 /1979 بيان الحكم الشرعي في المسائل الآتية:

    1- تعاطي المخدرات.

    2- إنتاج المخدرات وزراعتها وتهريبها والاتجار فيها والتعامل فيها على أي وجه كان.

    3- من يؤدي الصلاة وهو تحت تأثير المخدر.

    4- الربح الناتج عن التعامل في المواد المخدرة.

    5- التصدق بالأموال الناتجة عن التعامل في المواد المخدرة.

    6- تعاطي المخدرات للعلاج.

    7- التواجد في مكان معد لتعاطي المخدرات وكان يجري فيه تعاطيها.
     

    نفيد أن الشريعة الإسلامية جاءت رحمة للناس، اتجهت في أحكامها إلى إقامة مجتمع فاضل تسوده المحبة والمودة والعدالة والمثل العليا في الأخلاق والتعامل بين أفراد المجتمع، ومن أجل هذا كانت غايتها الأولى تهذيب الفرد وتربيته، ليكون مصدر خير للجماعة، فشرعت العبادات سعيا إلى تحقيق هذه الغاية وإلى توثيق العلاقات الاجتماعية، كل ذلك لصالح الأمة وخير المجموع.

    والمصلحة التي ابتغاها الإسلام وتضافرت عليها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تهدف إلى المحافظة على أمور خمسة يسميها فقهاء الشريعة الإسلامية الضرورات الخمس وهي: الدين والنفس والمال والعقل والنسل.

    إذ الدين والتدين خاصة من خواص الإنسان ولا بد أن يسلم الدين من كل اعتداء، ومن أجل هذا نهى الإسلام عن أن يفتن الناس في دينهم، واعتبر الفتنة في الدين أشد من القتل قال الله سبحانه: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191]، ومن أجل المحافظة على التدين وحماية الدين في نفس الإنسان وتحصينها شرعت العبادات كلها، والمحافظة على النفس تقتضي حمايتها من كل اعتداء بالقتل أو بتر الأطراف أو الجروح الجسمية، والحفاظ عليها من إهدار كرامتها بالامتهان كالقذف وغير هذا مما يمس كرامة الإنسان، وصون ذاته عما يودي بها من المهلكات سواء من قبل ذات الفرد كتعريض نفسه للدمار بالمهلكات المادية والمعنوية أو من قبل الغير بالتعدي، والمحافظة كذلك على العقل من الضرورات التي حرص الإسلام على تأكيدها في تشريعه، وحفظ العقل من أن تناله آفة تجعل فاقده مصدر شر وأذى للناس وعبئا على المجتمع، ومن أجل هذا حرم الإسلام وعاقب من يشرب الخمور وغيرها مما يتلف العقل ويخرج الإنسان عن إنسانيته، وكما قال الإمام الغزالي[1] «إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة».

    ولقد حرص الإسلام على حماية نفس الإنسان وقدمها على أداء الصلاة المكتوبة في وقتها بل وعلى صوم يوم رمـضان، ومـن أمثلة هذا ما أورده العز بن عبد السلام تقريرا لتقديم واجب على واجب لتفاوت المصلحة منها قوله[2] « تقديم إنقاذ الغرقى على أداء الصلوات ثابت؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل والجمع بين المصلحتين ممكن، بأن ينقذ الغريق ثم يقضي، ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك، وكذلك لو رأى في رمضان غريقا لا يمكن تخليصه إلا بالفطر فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضًا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقا لله وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على أداء الصوم دون أصله أي دون أصل الصيام؛ لأنه يمكن القضاء».

    وإذا كان من الضروريات التي حرص الإسلام على المحافظة عليها -حفظ النفس وحفظ العقل- فإنه في سبيل هذا حرم الموبقات والمهلكات المذهبات للعقل والمفسدات له، فإن أحدا من الناس لا يشك في أن سعادة الإنسان رهينة بحفظ عقله؛ لأن العقل كالروح من الجسد به يعرف الخير من الشر والضار من النافع وبه رفع الله الإنسان ففضله وكرمه على كثير من خلقه وجعله به مسؤولا عن عمله، ولما كان العقل بهذه المثابة فقد حرم الله كل ما يوبقه أو يذهبه حرمة قطعية، ومن أجل هذا حرم تعاطي ما يودي بالنفس وبالعقل من مطعوم أو مشروب، ومن هذا القبيل ما جاء في شأن أم الموبقات والخبائث الخمر، فقد ثبتت حرمتها بالكتاب والسنة والإجماع، ففي القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[٩٠] إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ[٩١]﴾ [المائدة: 90 - 91].

    أفادت هاتان الآيتان أن الخمر صنو للشرك بالله، وأنها رجس، والرجس لم يستعمل في القرآن إلا عنوانا على ما اشتد قبحه، وأنها من عمل الشيطان، وهذا كناية عن بلوغها غاية القبح ونهاية الشر، وأمرنا باجتنابها بمعنى البعد عنها بحيث لا يقربها المسلم فضلا عن أن يلمسها أو يتصل بها فضلا عن أن يتناولها، وسجلت الآية الأخيرة آثار الخمر السيئة في علاقة الناس بعضهم مع بعض، إذ تؤدي إلى قطع الصلات وإلى انتهاك الحرمات وسفك الدماء، وبعد هذا الضرر الاجتماعي الضرر الروحي إذ تنقطع بها صلة الإنسان بربه، وتنزع من نفسه تذكر عظمة الله عن طريق مراقبته بالصلاة الخاشعة مما يورث قسوة في القلب ودنسا في النفس، وجرت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة هذا التحريم ومن هذا قوله[3]: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».

    تعاطي المخدرات: ومدلول لفظ الخمر في اللغة العربية والشريعة الإسلامية كل ما خامر العقل وحجبه كما قال عمر بن الخطاب[4] رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه، دون نظر إلى المادة التي تتخذ منها، إذ الأحاديث الشريفة الصحيحة الواردة في الخمر قاطعة بهذا المعنى «كل مسكر حرام».

    وهكذا فهم أصحاب الرسول -رضوان الله عليهم-، وقال عمر هذه المقالة المبينة للمقصود بهذا اللفظ في محضر كبار الصحابة دون نكير من أحد منهم، ومن ثم فإن الإسلام حين حرم الخمر وقرر عقوبة شاربها لم ينظر إلى أنها سائل يشرب من مادة معينة وإنما نظر إلى الأثر الذي تحدثه فيمن شربها من زوال العقل الذي يؤدي إلى إفساد إنسانية الشارب وسلبه منحة التكريم التي كرمه الله بها بل ويفسد ما بين الشارب ومجتمعه من صلات المحبة والصفاء، وقد كشف العلم الحديث عن أضرار جسمية أخرى يحدثها شرب هذه المفسدات حيث يقضي على حيوية أعضاء هامة في الجسم كالمعدة والكبد هذا، عدا الأضرار الاقتصادية التي تذهب بالأموال سفها وتبذيرا فيما يضر ولا ينفع، هذا فوق امتهان من يشرب الخمر بذهاب الحشمة والوقار واحترام الأهل والأصدقاء، هذه الأضرار الجسمية والأدبية والاقتصادية التي ظهرت للخمر وعرفها الناس هي مناط تحريمها، وإذا كانت الشريعة إنما أقامت تحريمها للخمر على دفع المضار وحفظ المصالح فإنها تحرم كل مادة من شأنها أن تحدث هذه الأضرار أو أشد سواء كانت مشروبا سائلا أو جامدا مأكولا أو مسحوقا أو مشموما، ومن هذا لزم ثبوت حكم تحريم الخمر لكل مادة ظهرت أو تظهر تعمل عملها، يدل لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم[5]: «كل مسكر حرام».

    إذ لم يقصد الرسول بهذا إلا أن يقرر الحكم الشرعي وهو أن كل ما يفعل بالإنسان فعل الخمر يأخذ حكمها في التحريم والتجريم.

    وإذا كانت المخدرات كالحشيش والأفيون والكوكايين وغيرها من المواد الطبيعية المخدرة وكذلك المواد المخلقة تحدث آثار الخمر في الجسم والعقل بل أشد فإنها تكون محرمة بحرفية النصوص المحرمة للخمر وبروحها ومعناها والتي استمدت منها القاعدة الشرعية التي تعتبر من أهم القواعد التشريعية في الإسلام، وهي دفع المضار وسد ذرائع الفساد.

    ومع هذا فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه[6] عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر».

    والمفتر كما قال العلماء كل ما يورث الفتور والخور في أعضاء الجسم، وقد نقل العلماء إجماع فقهاء المذاهب على حرمة تعاطي الحشيش وأمثاله من المخدرات الطبيعية والمخلقة؛ لأنها جميعا تودي بالعقل وتفسده وتضر بالجسم والمال وتحط من قدر متعاطيها في المجتمع.

    قال ابن تيمية -رحمه الله- في بيان حكم الخمر والمخدرات[7]: «والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومستفيضة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد يصطبغ بها -أي يؤتدم- وهذه الحشيشة قد تداف -أي تذاب- في الماء وتشرب وكل ذلك حرام، وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها؛ لأنه إنما حدث أكلها من قريب في أواخر المائة السادسة أو قريبا من ذلك، كما أنه قد حدثت أشربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة».

    وإذا كان ما أسكر كثيره فقليله حرام، كذلك فإنه يحرم مطلقا بإجماع فقهاء المذاهب الإسلامية ما يفتر ويخدر من الأشياء الضارة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد، وهذا التحريم شامل كل أنواع المخدرات ما دام تأثيرها على هذا الوجه القليل منها والكثير، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب حد متعاطي المخدرات كشارب الخمر تماما؛ لأنها تفعل فعلها بل وأكثر منها، بل قال ابن تيمية[8]: «إن فيها -المخدرات- من المفاسد ما ليس في الخمر فهي أولى بالتحريم، ومن استحلها وزعم أنها حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين».

    ونخلص مما تقدم [إلى] أن المخدرات بكافة أنواعها وأسمائها طبيعية أو مخلقة مسكرة، وأن كل مسكر من أي مادة حرام، وهذا الحكم مستفاد نصا من القرآن الكريم ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم بيانه، وبذلك يحرم تعاطيها بأي وجه من وجوه التعاطي من أكل أو شرب أو شم أو حقن؛ لأنها مفسدة، ودرء المفاسد من المقاصد الضرورية للشريعة حماية للعقل والنفس؛ ولأن الشرع الإسلامي اعتنى بالمنهيات، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم[9]: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وفي حديث آخر يقول[10]: «لترك ذرة مما نهى الله عنه أفضل من عبادة الثقلين».

    ومن هنا قال الفقهاء: إنه يجوز ترك الواجب دفعا للمشقة.

    ولا تسامح في الإقدام على المنهيات خصوصا الكبائر إلا عند الاضطرار على ما يأتي بيانه.

    إنتاج المخدرات وزراعتها وتهريبها والاتجار فيها والتعامل فيها على أي وجه كان: ثبت مما تقدم أن المخدرات بكافة أنواعها وأسمائها محرمة طبقا بدخولها في اسم الخمر والمسكر، فهل إنتاجها بكافة وسائله والاتجار فيها وتهريبها والتعامل فيها كذلك يكون محرما؟ يتضح حكم هذا إذا علمنا أن الشريعة الإسلامية إذا حرمت شيئا على المسلم حرمت عليه فعل الوسائل المفضية إليه، وهذه القاعدة مستفادة من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ففي القرآن تحريم الميتة والدم والخمر والخنزير، وفي بيع هذه المحرمات يقول الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- فيما رواه الجماعة عن جابر رضي الله عنه[11]: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام».

    وحين حرم الله الزنا حرم دواعيه من النظر واللمس والخلوة بالمرأة الأجنبية في مكان خاص؛ لأن كل هذا وسيلة إلى الوقوع في المحرم وهو المخالطة غير المشروعة، وفي آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان قبل دخول بيوت الغير، والأمر للرجال والنساء بغض البصر عن النظر لغير المحارم، وإخفاء زينة النساء وستر أجسادهن كل ذلك بعد بالمسلمين عن الوقوع فيما لا يحل وحماية لحرمة المنازل والمساكن.

    ومن هنا تكون تلك النصوص دليلا صحيحًا مستقيما على أن تحريم الإسلام لأمر تحريم لجميع وسائله، ومع هذا فقد أفصح الرسول عن هذا الحكم في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه -كما رواه غيره- عن ابن عباس رضي الله عنه أن: «من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم في النار».

    وقوله صلى الله عليه وسلم المروي عن أربعة من أصحابه منهم ابن عمر[12]: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه» صريح كذلك في تحريم كل وسيلة مفضية إلى شرب الخمر.

    ومن هنا تكون كل الوسائل المؤدية إلى ترويج المخدرات محرمة سواء كانت زراعة أو إنتاجا أو تهريبا أو اتجارا، فالتعامل فيها على أي وجه مندرج قطعا في المحرمات باعتباره وسيلة إلى المحرم، بل إن الحديثين الشريفين سالفي الذكر نصان قاطعان في تحريم هذه الوسائل المؤدية إلى إشاعة هذا المنكر بين الناس باعتبار أن اسم الخمر بالمعنى السالف -ما خامر العقل كما فسرها سيدنا عمر بن الخطاب- شامل للمخدرات بكافة أسمائها وأنواعها، ولأن في هذه الوسائل إعانة على المعصية، والله سبحانه نهى عن التعاون في المعاصي كقاعدة عامة في قوله سبحانه: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وفي إنتاج المخدرات والاتجار فيها وتهريبها وزراعة أشجارها إعانة على تعاطيها، والرضا بالمعاصي معصية محرم شرعًا قطعا سيما وأن هذه الوسائل مؤداها ومقصودها تهيئة هذه السموم المخدرة للتداول والانتشار بين الناس فهي حرام حرمة ذات المخدرات؛ لأن الأمور بمقاصدها.

    من يؤدي الصلاة وهو تحت تأثير المخدر: وصف ابن تيمية المخدرات وأثرها في متعاطيها فقال[13]: «... وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة -الديوث: الذي لا يغار على أهله- وغير ذلك من الفساد». ولا مراء في أن المخدرات تورث الفتور والخدر في الأطراف.

    وقد قال ابن حجر المكي[14] في فتاواه في شرح حديث أم سلمة السالف «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر»: فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه فإنها تسكر وتخدر وتفتر ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها، ومن أجل تأثير المخدرات وإصابتها عقل متعاطيها بالفتور والخدر فإنه لا يحسن المحافظة على وضوئه، فتنفلت بطنه دون أن يدري أو يتذكر، ولهذا أجمع فقهاء المذاهب على أن من نواقض الوضوء أن يغيب عقل المتوضئ بجنون أو صرع أو إغماء وبتعاطي ما يستتبع غيبة العقل من خمر أو حشيش أو أفيون أو غير هذا من المخدرات المغيبات، ومتى كان الشخص مخدرا بتعاطي أي نوع من المخدرات غاب عقله وانعدم تحكمه وسيطرته على أعضاء جسمه، وفقد ذاكرته فلم يعد يدري شيئا وانتقض وضوؤه وبطلت صلاته وهو بهذه الحال، ولا فرق في هذا بين خدر وسكر بخمر سائل أو مشموم أو مأكول، فإن كل ذلك خمر ومسكر، ولقد أمر الله سبحانه المسلمين بألا يقربوا الصلاة حال سكرهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...﴾ [النساء: 43]، وهذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر حتى يزول أثره، وهو دليل قاطع على بطلان صلاة السكران بمسكر أو بمفتر؛ لأنه في كل أحواله انتقض وضوؤه وانتقص عقله أو زال بعد إذ فترت أطرافه وتراخت أعضاؤه واختلط على السكران أو المتعاطي للمخدر ما يقول وما يقرأ من القرآن الكريم، ولذا قال الله تعالى في نهيه عن الصلاة حال السكر: ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]. أي: بزوال حال السكر والفتور والخدر.

    الربح الناتج عن التعامل في المواد المخدرة: من الأصول الشرعية في تحريم بعض الأموال قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29].

    أي لا يحل لأحدكم أخذ وتناول مال غيره بوجه باطل كما لا يحل كسب المال من طريق باطل أي محرم، وأخذ المال أو كسبه بالباطل على وجهين:

    الأول: أخذه على وجه غير مشروع كالسرقة والغصب والخيانة.

    والآخر: أخذه وكسبه بطرق حظرها الشرع كالقمار أو العقود المحرمة كما في الربا وبيع ما حرم الله الانتفاع به كالميتة والدم، والخمر المتناولة للمخدرات بوصفها العنواني على ما سلف بيانه فإن هذا كله حرام.

    وترتيبا على هذا يكون الربح والكسب من أي عمل محرم حراما، وبهذا جاءت الأحاديث الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها قوله[15]: «إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه».

    وفي هذا أيضًا قال العلامة ابن القيم[16]: «قال جمهور الفقهاء إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله، وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات».

    وإذا كانت الأعيان التي يحل الانتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية الله رأى جمهور الفقهاء -وهو الحق- تحريم ثمنها بدلالة ما ذكرنا من الأدلة وغيرها، وعليه كان ثمن العين التي لا يحل الانتفاع بها كالمخدرات حراما من باب أولى.

    وبهذه النصوص نقطع بأن الاتجار في المخدرات محرم وبيعها محرم وثمنها حرام وربحها حرام لا يحل للمسلم تناوله يدل [على] ذلك قطعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت آية تحريم الخمر ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...﴾ [المائدة: 90].

    أمر أصحابه بإراقة ما عندهم من خمور ومنعهم من بيعها حتى لغير المسلمين بل إن أحد أصحابه قال: إن عندي خمرا لأيتام، فقال له صلى الله عليه وسلم: «أهرقها».

    فلو جاز بيعها أو حل الانتفاع بثمنها لأجاز لهذا الصحابي بيع الخمر التي يملكها الأيتام لإنفاق ثمنها عليهم.

    التصدق بالأموال الناتجة عن التعامل في المواد المخدرة: في القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ [البقرة: 267].

    وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[١٧٢]﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له».

    وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده في النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

    وفي الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له أجره وكان أجره - يعني إثمه وعقوبته- عليه».

    وفي حديث آخر أنه قال: «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جمعا ثم قذف به في نار جهنم».

    والحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز -ركاب من جلد- فنادى: لبيك اللهم لبيك؛ نادى مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة -أي المال الحرام- فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك؛ ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام وحجك مأزور وغير مبرور».

    فهذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة قاطعة في أنه لقبول الأعمال الصالحة عند الله من صدقة وحج وعمرة وبناء المساجد وغير هذا من أنواع القربات لا بد وأن يكون ما ينفق فيها حلالا خالصا لا شبهة فيه، وإذا كانت الأدلة المتقدمة قد أثبتت أن ثمن المحرمات وكسوبها حرام فلا يحل أكلها ولا التصدق بها ولا الحج منها ولا إنفاقها في أي نوع من أنواع البر؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، بمعنى أن منفق المال الحرام في أي وجه من وجوه البر لا ثواب له فيما أنفق؛ لأن الثواب جزاء القبول عند الله، والقبول مشروط بأن يكون المال طيبا كما جاء في تلك النصوص.

    تعاطي المخدرات للعلاج: الإسلام حرم مطعومات ومشروبات صونا لنفس الإنسان وعقله، ورفع هذا التحريم في حال الضرورة فقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]، وقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[١١٥]﴾ [النحل: 115]. وقال: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119].

    ولقد استنبط الفقهاء من هذه الآيات ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضرورة قواعد يأخذ بعضها بحجز بعض، فقالوا: «الضرر يزال»، و«الضرورات تبيح المحظورات»، ومن ثم أجازوا أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].

    وقالوا أيضًا: «إن الضرورة تقدر بقدرها»، «وما جاز لعذر بطل بزواله»، «والضرر لا يزال بضرر»، وقد اختلف الفقهاء في جواز التداوي بالمحرم، والصحيح من آرائهم هو ما يلتقي مع قول الله في الآيات البينات السالفات بملاحظة أن إباحة المحرم للضرورة مقصورة على القدر الذي يزول به الضرر وتعود به الصحة ويتم به العلاج، وللتثبت من توافر هذه الضوابط اشترط الفقهاء الذين أباحوا التداوي بالمحرم شرطين:

    أحدهما: أن يتعين التداوي بالمحرم بمعرفة طبيب مسلم خبير بمهنة الطب معروف بالصدق والأمانة والتدين.

    والآخر: ألا يوجد دواء من غير المحرم ليكون التداوي بالمحرم متعينا، ولا يكون القصد من تناوله التحايل لتعاطي المحرم، وألا يتجاوز به قدر الضرورة.

    وقد أفتى ابن حجر المكي الشافعي[17] حين سئل عمن ابتلي بأكل الأفيون والحشيش ونحوهما وصار حاله بحيث إذا لم يتناوله هلك: أفتى بأنه إذا علم أنه يهلك قطعا حل له بل وجب لاضطراره لإبقاء روحه كالميتة للمضطر، ويجب عليه التدرج في تقليل الكمية التي يتناولها شيئا فشيئا حتى يزول اعتياده.

    وهذا -كما تقدم- إذا ثبت بقول الأطباء الثقات دينا ومهنة أن معتاد تعاطي المخدرات يهلك بترك تعاطيها فجأة وكلية.

    وترتيبا على هذا فإذا ثبت أن ضررا ماحقا ومحققا وقوعه بمتعاطي المخدرات سواء كانت طبيعية أو مخلقة إذا انقطع فجأة عن تعاطيها جاز مداواته بإشراف طبيب ثقة متدين حتى يتخلص من اعتياده -كما أشار العلامة ابن حجر في فتواه المشار إليها- لأن ذلك ضرورة، ولا إثم في الضرورات متى روعيت شروطها المنوه بها إعمالا لنصوص القرآن الكريم في آيات الاضطرار سالفة الإشارة.

    هذا وإنه مع التقدم العلمي في كيمياء الدواء لم تعد حاجة ملحة للتداوي بالمواد المخدرة المحرمة شرعًا لوجود البديل الكيميائي المباح.

    التواجد في مكان معد لتعاطي المخدرات وكان يجري فيه تعاطيها: كرم الله الإنسان ونأى به عن مواطن الريب والمهانة وامتدح عباده الذين تجنبوا مجالس اللهو واللغو فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[٣]﴾ [المؤمنون: 3]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[٧٢]﴾ [الفرقان: 72]، وقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55]، وفي الحديث عن الرسول الأكرم -صلوات الله وسلامه عليه-: «استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق».

    وروى أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه قوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر...».

    والمستفاد من هذه النصوص أنه يحرم مجالسة مقترفي المعاصي أيا كان نوعها؛ لأن في مجالستهم إهدارا لحرمات الله، ولأن من يجلس مع العصاة الذين يرتكبون المنكرات يتخلق بأخلاقهم السيئة ويعتاد ما يفعلون من مآثم كشرب المسكرات والمخدرات، كما يجري على لسانه ما يتناقلونه من ساقط القول، ومن أجل البعد بالمسلم عن الدنايا وعن اعتياد ارتكاب الخطايا كان إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين في اختيار المجالس والجليس في قوله[18]: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك[19] وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة». رواه البخاري ومسلم.

    فالجليس الصالح يهديك ويرشدك ويدلك على الخير وترى منه المحامد والمحاسن وكله منافع وثمرات، أما الجليس الشرير فقد شبهه الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بنافخ الكير يضر ويؤذي ويعدي بالأخلاق الرديئة ويجلب السيرة المذمومة، وهو باعث الفساد والإخلال ومحرك كل فتنة وموقد نار العداوة والخصام، وفي هذا الحديث الشريف دعوة إلى مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم، وفيه النهي عن مجالسة أهل الشر والبدع والفجار الذين يجاهرون بارتكاب المنكرات وشرب المسكرات والمخدرات؛ لأن القرين ينسب إلى قرينه وجليسه ويرتفع به وينحدر وتهبط كرامته بدناوة من يجالسهم، ولقد تحدث القرآن الكريم عن قرناء السوء وحذر منهم ومن مجالستهم وأخبر أنهم سوء وندامة في الدنيا والآخرة: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا[٣٨]﴾ [النساء: 38].

    وإذا كان الجليس يقتدي ويهتدي بجليسه وبمجلسه فإن في جلوس الإنسان التقي البعيد عن المآثم والشبهات في مجالس الإفك والشرب وتعاطي المخدرات [ضررا] يؤذيه ويرديه في الدنيا بالمهانة وانتزاع المهابة عند عارفيه من أقارب وأصدقاء؛ لأن المخدرات - كما نقل العلامة ابن حجر المكي[20] في فتاواه الكبرى-: «فيها مضار دينية ودنيوية، فهي تورث الفكرة، وتعرض البدن لحدوث الأمراض، وتورث النسيان، وتصدع الرأس، وتورث موت الفجاءة واختلال العقل وفساده، والسل والاستسقاء وفساد الفكر، وإفشاء السر، وذهاب الحياء، وكثرة المراء، وانعدام المروءة، وكشف العورة، وعدم الغيرة، وإتلاف الكسب، ومجالسة إبليس، وترك الصلاة، والوقوع في المحرمات، واحتراق الدم، وصفرة الأسنان، وثقب الكبد وغشاء العين، والكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا والصحيح عليلا، إن أكل لا يشبع، وإن أعطي لا يقنع».

    ومن هنا كان على الإنسان أن ينأى عن مجالس الشرب المحرم خمرا سائلا أو مخدرات مطعومة أو مشروبة أو مشمومة، فإنها مجالس الفسق والفساد وإضاعة الصحة والمال، وعاقبتها الندم في الدنيا والآخرة: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[٣٦]﴾ [الزخرف: 36].

    بل إن مصاحبة هؤلاء المارقين على الدين الذين يتعاطون هذه المهلكات إثم كبير؛ لأن الله قد غضب عليهم وعلى مجالسهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ [الممتحنة: 13].

    وفي مصاحبة هؤلاء ومجالستهم معاداة المولى سبحانه وتحد لأوامره، فقد نهى عن مودة العصاة ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22].

    وهؤلاء قد استغرقوا في مجالسهم المحرمة المليئة بالآثام، فالجلوس معهم مشاركة فيما يرتكبون ومودة معهم، مع أنهم غير جديرين بهذه المودة لعصيانهم أوامر الله ورسوله واستباحتهم ما حرم الله ورسوله أولئك حزب الشيطان، من جلس معهم فقد رضي بمنكرهم وأقر فعلهم، والمؤمن الحق مأمور بإزالة الباطل متى استطاع وبالوسيلة المشروعة، فإن لم يستطع فعليه الابتعاد عن مجالس المنكرات[21]، ففي الحديث الشريف في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

    ففي هذا الحديث النبوي دعوة إلى مكافحة المنكرات ومنها هذه السموم المخدرات بعد أن بان ضررها وشاع سوء آثارها وكانت عاقبة أمرها خسرا للإنسان وللمال بل وفي المآل، فمن كان له سلطة إزالة هذه المخدرات والقضاء على أوكارها وتجارها كان لزاما عليه بتكليف من الله ورسوله أن يجد ويجتهد في مطاردة هذه الآفة، ومن لم يكن من أصحاب السلطة فإن عليه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيبين للناس آثارها المدمرة لنفس الإنسان وماله، ومن الأمر بالمعروف إبلاغ السلطات بأوكار تجارها ومتعاطيها، فالتستر على الجريمة إثم وجريمة في حق الأمة وإشاعة للفحشاء فيها، وجميع الأفراد مطالبون بالأمر بالمعروف وبالإرشاد عن مرتكبي هذه المنكرات ومروجي المخدرات، إذ هذه هي النصيحة التي أمر بها الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن تميم الداري[22]: «الدين النصيحة قال له ثلاثا: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

    وفي الحديث[23] الذي رواه النسائي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب».

    والنصيحة لأئمة المسلمين أي للحكام بالإرشاد ومعاونتهم على منع المنكرات والآثام؛ لأنهم القادرون على تغييرها بالقوة، فلا تأخذنا رحمة في دين الله إذ التستر على هذه الآثام إعانة لمروجيها على الاستمرار في هذه المهمة الخبيثة.

    وبعد فقد أوضحنا فيما تقدم إجماع فقهاء المذاهب الإسلامية على تحريم إنتاج المخدرات وزراعتها وتجارتها وترويجها وتعاطيها طبيعية أو مخلقة، وعلى تجريم أي إنسان يقدم على شيء من ذلك بنصوص صريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأنه لا ثواب ولا مثوبة لما ينفق من ربحها، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، أما الكسب الحرام فإنه مردود على صاحبه يعذب به في الآخرة وساءت مصيرا، وبينا حكم مداواة المدمنين بإشراف الأطباء المتقنين لمهنتهم وبقدر الضرورة حتى يزول هذا الإدمان، وأنه لا يحل التداوي بالمحرمات إلا عند تعينها دواء وعدم وجود دواء مباح سواها، كما أوضحنا أن المجالس التي تعد لتعاطي هذه المخدرات مجالس فسق وإثم، الجلوس فيها محرم على كل ذي مروءة يحافظ على سمعته وكرامته بين الناس وعند الله، وأن على الكافة إرشاد الشرطة المختصة لمكافحة تجارة هذه السموم القاتلة والقضاء على أوكارها، وأن هذا الإرشاد هو ما سماه الرسول الأكرم بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

    وبعد فإن الله الذي حرم هذه الموبقات المخدرات المهلكات للأنفس والأموال حرم أم الخبائث الخمر، وقد آن لنا أن نخشع لذكر الله وما أنزل في قرآنه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[٩٠]﴾ [المائدة: 90].

    آن لنا أن نجعل هذا الحكم نافذا في مجتمعنا حماية لأولادنا ونسائنا أولًا وأخيرا طاعة لربنا.

    وفق الله الجميع للتمسك بدينه والعمل بشريعته وهو حسبنا ونعم الوكيل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].

    والله سبحانه أعلم بالصواب.

    المبادئ 1- أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على تحريم إنتاج المخدرات وزراعتها وتجارتها وترويجها وتعاطيها طبيعية أو مخلقة وعلى تجريم من يقدم على ذلك.

    2- لا ثواب ولا مثوبة لما ينفق من ربحها.

    3- الكسب الحرام مردود على صاحبه يعذب به في الآخرة وساءت مصيرا.

    4- لا يحل التداوي بالمحرمات إلا عند تعينها دواء، وعدم وجود مباح سواها وبقدر الضرورة حتى يزول هذا الإدمان وبإشراف الأطباء المتقنين لمهنتهم.

    5- المجالس التي تعد لتعاطي المخدرات مجالس فسق وإثم والجلوس فيها محرم على كل ذي مروءة.

    6- على الكافة إرشاد الشرطة المختصة لمكافحة تجارة هذه السموم القاتلة والقضاء على أوكارها.

    بتاريخ: 4/3/1979

     

    1) المستصفى للغزالي جزء 1 صفحة 288.

    2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام جزء 1 صفحة 63.

    3) أخرجه مسلم من شرح سبل السلام على متن بلوغ المرام صفحة 47 جزء 4.

    4) المرجع السابق.

    5) من حديث ابن عمر الذي رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه من كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني صفحة 173 جزء 8.

    6) سنن أبي داود صفحة 130 جزء 2.

    7) فتاوى ابن تيمية جزء 4، وكتاب السياسة الشرعية له صفحة 131.

    8) فتاوى ابن تيمية صفحة 257 المجلد الرابع..

    9) الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري الحنفي في القاعدة الخامسة.

    10) الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري الحنفي في القاعدة الخامسة.

    11) نيل الأوطار للشوكاني جزء 5 صفحة 141، وسبل السلام للصنعاني جزء 2 صفحة 316.

    12) رواه أبو داود في سننه جزء 2 صفحة 128 في كتاب الأشربة وابن ماجه في سننه.

    13) السياسة الشرعية لابن تيمية صفحة 128 في حد الشرب.

    14) صفحة 233 جزء 4 في باب الأشربة والمخدرات.

    15) رواه أبو داود في سننه في باب الأشربة جزء 2.

    16) زاد المعاد لابن القيم جزء 4 صفحة 474.

    17) نقل هذا ابن عابدين في حاشيته رد المحتار جزء 5 صفحة 451 في آخر كتاب الحظر والإباحة.

    18) من كتاب الترغيب والترهيب صفحة 49، 50 جزء 4.

    19) يحذيك يعني: يعطيك.

    20) جزء 4 صفحة 234.

    21) الترغيب والترهيب للمنذري جزء 3 صفحة 223.

    22) الترغيب والترهيب للمنذري جزء 3 صفحة 228.

    23) المرجع السابق صفحة 229.

    دار الإفتاء المصرية

    رقم الفتوى: 248 س:105 تاريخ النشر في الموقع : 12/12/2017

    المفتي: جاد الحق علي جاد الحق
    تواصل معنا

التعليقات