حكم تعليق الوسامات في الصدور
ما قولكم في حكم تعليق النياشين والوسامات في الصدور خصوصًا المهداة من الدول الأوربية[1]؟
ينظر في التحلي بهذه الأوسمة المعروفة بالنياشين من وجهين:
أحدهما: مادتها، فإذا كانت ذهبًا أو فضة فالمذاهب الأربعة متفقة على تحريم تعليقها على الرجال، وقد تقدم في جواب السؤال السابع والخمسين[2] من الجزء الحادي عشر من هذا ما ورد في ذلك وحكمته.
وثانيهما: معناها وطريق الوصول إليها، وما أنشئت لأجله، وتأثير ذلك في حاملها وفي الناس، وهذا لم يرد فيه شيء في السنة لأنه من المحدثات بعد التشريع فالحكم فيه راجع إلى قاعدة تحريم كل ضار وإباحة كل نافع، ونعني بالمباح هنا ما يقابل المحرم والمكروه. وإننا نعلم أن هذه الأوسمة قد وضعت في الأصل لتكون سمة وعلامة تميز من يخدم دولته وأمته خدمة جليلة، ليرغب غيره في مثل تلك الخدمة، حبًا بالامتياز الذي هو ركن للشرف ركين، وهذا شيء يختلف باختلاف البلاد والأشخاص، وإننا نرى أن نيل هذه الأوسمة وكذلك رتب التشريف التي تقارنها غالبًا، قد خرجت في هذه البلاد وفي الدولة العثمانية عن وضعها، وصار الناس يتوسلون إلى نيلها بالمال وبسيئات الأعمال، حتى عرف الخاص والعام أن لها سماسرة في مصر والأستانة، وأن لها أثمانًا معينة تختلف باختلاف درجاتها وأسمائها، وأن بعض الأعمال السيئة كالتجسس والسعاية قد تغني عن المال في ذلك. ولا شك أن ابتغاء هذه الوسائل الخسيسة، إلى مثل هذا الشرف الوهمي، من الأعمال المحرمة في الدين القبيحة في نظر العقل.
وللحكومة المصرية اصطلاح في إعطاء الرتب والأوسمة للمستخدمين فيها وهي أنهم يعطون على حسب درجات وظائفهم وأنواعها، ويطلبها لهم رؤساؤهم فلا يبذلون في ذلك مالًا، ولا يقدمون للقصور أعمالًا.
ثم إننا نشاهد لها في هذه البلاد مضرات أخرى في الأخلاق والاقتصاد، فإن بعض محبي الفخفخة يبيع ما يملك ليشتري رتبة أو وسامًا، حتى افتقر بعضهم، ونرى من ينال منها شيئًا يدخل غالبًا في طور جديد من السرف والخيلاء ومنافسة القرناء بالباطل، حتى يحملهم على السعي في مساواته أو مساماته.
وكثيرًا ما يقع التنازع والتعادي في النسب والصهر للتفاوت العارض بينهم بأخذ بعضهم رتبة أو وسامًا دون عشيرته، وكل هذه مفاسد محرمة.
وقد بلغتنا وقائع منها لا سيما بين نساء العشيرة، فإن المرأة التي ينال أبوها أو أخوها وسامًا أو رتبة أو لقب (بيك) يسرع إليها الصلف والتكبر على زوجها، ويتلوه الشقاق فالفراق، أو يسعى الزوج في مساواة أبيها في ذلك.
ومن هذه المضرات تعالي الوضيع برتبته أو وسامه، على الرفيع بفضله وعلمه أو مجده وشرفه، حتى تبرّم الفضلاء، وتبظرم السفهاء، وصرنا نرى في الناس من يلهج بذم هذه الزينة الباطلة وذم باعتها ومشتريها وسماسرتها.
وعندي أنه لم يبق لهذه الرتب والأوسمة من الشرف في الشرق الأدنى، إلا بقية في رؤساء الجند وما كان من جمعيات أوربا العلمية.
أما حكم هذه الأوسمة من الدول الأوربية فهو تابع لسبب إعطائها فإن كان من يعطاها قد خدم الدولة الأجنبية خدمة جائزة شرعًا، بأن كانت نافعة غير ضارة بأمته ولا بلاده، فلا يحظر حمله الوسام من هذا الوجه، إلا إذا كان مرغبًا في خدمة الأجنبي ولو بغير حق وسببًا للاعتزاز به من دون الحق.
وإن كانت الخدمة غير جائزة شرعًا، فلا شك أن حمل الوسام يكون آية على الإصرار ودوام الرضا بالذنب وأن المعصية الصغيرة لتكون بالإصرار عليها كبيرة.
[1] المنار ج7 (1904) ص735-737.
[2] المنار ج7 (1904) ص419. انظر أعلاه الفتوى 76.
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
رقم الفتوى: 117 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017