حكم التنازل عن حصة في صناديق النذور
سيدة لها حصة في صندوق النذور والصدقات بضريح أحد الأولياء، قد تنازلت هذه السيدة عن هذه الحصة لأولاد بنتها.
فهل يصح هذا التنازل شرعا؟ وهل هذه الصدقات والنذور تورث؟
اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأنه قد جاء في البحر قبيل باب الاعتكاف من الجزء الثالث نقلا عن الشيخ قاسم في شرح الدرر ما نصه: «وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون لإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتي بعض الصلحاء فيجعل سترة على رأسه، فيقول: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء كذا أو من الشمع كذا أو من الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع؛ لوجوه منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها إن ظن -ولعل الصواب أنه ظن- أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر، اللهم إلا إن قال: يا الله إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء الذين بباب السيدة نفيسة أو الفقراء الذين بباب الإمام الشافعي أو بباب الإمام الليث أو أشتري حصرا لمساجدهم أو زيتا لوقودها أو دارهم لمن يقوم بشعائرها إلى غير ذلك مما يكون فيه نفع للفقراء والنذر لله عز وجل، وذكر الشيخ إنما هو محل لصرف النذر لمستحقيه القاطنين برباطه أو مسجده أو جامعه، فيجوز بهذا الاعتبار؛ إذ مصرف النذر الفقراء، وقد وجد المصرف، ولا يجوز أن يصرف ذلك لغني غير محتاج ولا لشريف ذي منصب؛ لأنه لا يحل له الأخذ ما لم يكن محتاجا فقيرا، ولا لذي النسب لأجل نسبه ما لم يكن فقيرا، ولا لذي علم لأجل علمه ما لم يكن فقيرا، ولم يثبت في الشرع جواز الصرف للأغنياء؛ للإجماع على حرمة النذر للمخلوق، ولا ينعقد ولا تشغل الذمة به ولأنه حرام، بل سحت، ولا يجوز لخادم الشيخ أخذه ولا أكله ولا التصرف فيه بوجه من الوجوه، إلا أن يكون فقيرا أو له عيال فقراء عاجزون عن الكسب وهم مضطرون، فيأخذونه على سبيل الصدقة المبتدأة، فأخذه أيضًا مكروه ما لم يقصد به الناذر التقرب إلى الله تعالى، وصرفه إلى الفقراء بقطع النظر عن نذر الشيخ، فإذا علم هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينتقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين ما لم يقصدوا صرفه للفقراء الأحياء قولا واحدا» انتهى.
والظاهر لنا أن هؤلاء العوام وإن قالوا بألسنتهم إني نذرت لله أو تصدقت لله فمقصدهم في الواقع، ونفس الأمر إنما هو التقرب إلى الأولياء والصالحين، وليس مقصدهم التقرب إلى الله تعالى وحده، ولم يبتغوا بذلك وجهه، ولقد صدق حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة -رحمه الله تعالى- إذ يقول في رسالته التي ألفها في النذور وأحكامها: «ما يقدمون من قربان وما ينذرون من نذور وما يعتقدون في الأضرحة وساكنيها بما كان يصنع المشركون في الجاهلية، وما يغني عنهم نفي الشرك عنهم بألسنتهم، وأفعالهم تنبئ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون ولأعدائهم ضارون» انتهى.
وقد جاء في سبل السلام بشرح بلوغ المرام ما نصه: «وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها؛ لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافي الأليم ويشفي السقيم، وهذا هو الذي كان يفعله عباد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النذر على الوثن، ويحرم قبضه؛ لأنه تقرير على الشرك، ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات، وأنه الذي كان يفعله عباد الأصنام، لكن طال الأمر حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا» انتهى.
وجاء في الروضة الندية وشرحها: «ومنه -أي من النذر غير الصحيح- النذر على القبور؛ لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله تعالى، بل قد يكون من النذر في المعصية إذا كان يتسبب عنه اعتقاد فاسد في صاحب القبر كما يتفق ذلك كثيرا».
انتهى.
ولو عبر صاحب الروضة بقوله: «بل هو نذر في المعصية إذ يتسبب عنه اعتقاد فاسد في صاحب القبر» لكانت العبارة أوفى بما هو الواقع عند العوام، وقد أطال القول في ذلك الشوكاني في رسالته المسماة «شرح الصدور في تحريم رفع القبور»، ولولا خشية الملل لذكرناه، وما ذكرناه فيه الكفاية.
مما ذكر يتبين أن نذر العوام لأرباب الأضرحة أو التصدق لهم تقربا إليهم -وهو ما يقصده هؤلاء الجهلة مما ينذرونه أو يتصدقون به- حرام بإجماع المسلمين، والمال المنذور أو المتصدق به يجب رده لصاحبه إن علم، فإن لم يعلم فهو من قبيل المال الضائع الذي لا يعلم له مستحق، فيصرف على مصالح المسلمين أو على الفقراء، ولا يتعين فقير لصرفه إليه، فليس لفقير معين -ولو كان خادما للضريح أو قريبا لصاحبه- حق فيه قبل القبض، ومن قبض منهما شيئًا وكان فقيرا فإنما تملكه بالقبض، ولا يجوز لغني أن يتناول منه شيئا، فإذا تناول منه شيئًا لا يملكه وجب رده على مصارفه.
ومن هذا يعلم أنه ليس للمتنازلة المذكورة حق فيما يوضع في الصندوق المذكور من الأموال، فإذا تنازلت فإنما تتنازل عن شيء لم يثبت لها شرعا، وعلى فرض أن لها حقا فيه فليس هذا الحق من الحقوق التي تقبل التنازل والتمليك أو التي تنتقل بالإرث عنها لورثتها.
وبهذا علم الجواب عن السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المبادئ 1- النذر لأصحاب الأضرحة والأولياء والصالحين باطل بالإجماع فإذا ظن الناذر أن الميت يتصرف في الأمور دون الله سبحانه وتعالى واعتقده كان ذلك كفرا والعياذ بالله إلا إذا قال إنه ينذر لله سبحانه وتعالى إذا شفي مريضه أو قضيت حاجته أن يطعم الفقراء الواقفين بباب السيدة نفيسة أو الإمام الشافعي... إلخ مما يكون فيه نفع الفقراء فيكون جائزا.
2- لا يجوز صرف النذر لغني غير محتاج ولا لشريف ذي منصب ولا الذي علم من أجل علمه ما لم يكن كل هؤلاء فقراء.
3- إذا كان النذر لغير الله تعالى فهو حرام والمال المنذور يجب رده إلى صاحبه إن علم وإلا يكون من قبيل المال الضائع الذي لا يعلم له مستحق فيصرف على مصالح المسلمين أو على الفقراء.
4- التنازل عن الحق في صندوق النذور باطل.
بتاريخ: 25/12/1944
دار الإفتاء المصرية
رقم الفتوى: 895 س: 54 تاريخ النشر في الموقع : 12/12/2017