الوقوف بعرفة
1- هل تجوز زيادة مساحة الرقعة المخصصة لوقوف الحجيج على عرفة بما يعرف بامتداد عرفة؛ لاستيعاب العدد المتزايد من الحجاج؟
2- ما حكم من وقف بعرفة قبل الزوال فقط؟ وهل يجوز للحجاج أن ينفروا من عرفة قبل المغرب؟ وما حكم من وقف بها جزءا من ليلة النحر فقط؟
3- هل يجوز شرعا أن تكون نفرة الحجيج من عرفات على مراحل لتتم النفرة في سهولة ويسر لهذه الأعداد الغفيرة المتزايدة؟ وهل هذا يعتبر تغييرا لمناسك الحج؟
أولا: من المقرر شرعا أن حدود مشاعر الحج ومناسكه وحدود الحل والحرم من الأمور الثابتة بإجماع المسلمين سلفا وخلفا، إلا مواضع يسيرة نصوا على الخلاف فيها، وهذا معدود من الثوابت التي تشكل هوية الإسلام، والتي لا يجوز الاختلاف فيها، والوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، حتى قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «الحج عرفة». رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم.
وحدود عرفة هي نهاية الحرم وبداية الحل، وهي معروفة معلومة أجمع المسلمون عليها إلا ما يحكى من خلاف ضعيف في نمرة، حتى نص الفقهاء على أن مسجد إبراهيم وهو المسمى بمسجد نمرة ليس كله من عرفة، بل مقدمه من طرف وادي عرنة وآخره في عرفات، قالوا: فمن وقف في مقدمه لم يصح وقوفه، ومن وقف في آخره صح وقوفه، وقد أجمع المسلمون على صحة الوقوف بأي جزء من عرفة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف». رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأجمعوا على أن من وقف خارج حدودها فإن حجه باطل، إلا ما يروى عن الإمام مالك أن من وقف ببطن عرنة فحجه صحيح وعليه دم، والصحيح عند المالكية أن بطن عرنة ليس من عرفة ولا من الحرم، ونص أهل العلم على أن من أخطأ الوقوف بعرفة فوقف خارجها بطل حجه ووجب عليه القضاء، حتى لو اتفق ذلك للحجيج جميعا؛ لأن ذلك مما يمكن التحرز منه، فلا يكون الخطأ عذرا في إسقاط القضاء، فإذا أخطأ الحجيج في الموقف فوقفوا في غير عرفة لزمهم القضاء سواء كانوا جمعا كثيرا أم قليلا؛ لأن الخطأ في الموقف يؤمن مثله في القضاء.
وعلى ذلك فإنه لا يجوز توسيع رقعة عرفة خارج حدودها التي أجمع عليها المسلمون، خاصة وأن المطلوب من الحاج في هذا الركن هو مجرد الوجود في أي بقعة من عرفة: أرضها أو سمائها، قائما أو قاعدا، راكبا أو راقدا، مستيقظا أو نائما، وليس المطلوب الإقامة أو المكث، فالركن يحصل بمجرد المرور بها، ويمكن التغلب على التدافع والتكدس في الزحام الشديد بالتنظيم الشامل لنفرة الحجيج ولو بإلزام الحجاج بمذهب من لا يشترط وقتا معينا للوقوف كما سيأتي في إجابة السؤال التالي، تلافيا للأضرار الناجمة في ذلك.
ثانيا: أجمع العلماء على أن ما بعد الزوال هو وقت صحيح للوقوف بعرفة، وأن وقت الوقوف ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، وأن من جمع في وقوفه بعرفة بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام ولا شيء عليه، وأن من وقف بعرفة ليلة النحر فحجه صحيح.
وهاهنا مسائل: الأولى: حكم الوقوف بعرفة والدفع منها قبل الزوال، هل يجزئ عن الوقوف بعد الزوال؟ فالجمهور على أن الوقوف بعرفة يبتدئ من الزوال، وأن الوقوف قبل الزوال غير مجزئ، ومن لم يقف بعد الزوال فقد فاته الحج. والحنابلة يرون أن من وقف ونفر بعد الفجر وقبل الزوال فحجه صحيح وعليه دم.
واحتجوا بحديث عروة بن مضرس -رضي الله عنه- قال: «أتيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيئ، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد أتم حجه وقضى تفثه».
رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان والدارقطني، والحاكم، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث، وهي قاعدة من قواعد الإسلام". اهـ من "المستدرك" 1/ 462، ط: الهند.
قال الإمام أبو البركات ابن تيمية الحنبلي في منتقى الأخبار مع نيل الأوطار -5/ 116، ط: المنيرية- بعد ذكره لهذا الحديث: "وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف". اهـ.
وقال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" -5/ 116-: "وأجاب الجمهور عن الحديث: بأن المراد بالنهار ما بعد الزوال؛ بدليل أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله، فكأنهم جعلوا هذا الفعل مقيدا لذلك المطلق، ولا يخفى ما فيه". اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" -4/ 23، ط: دار إحياء التراث العربي-: "وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم وقدمه في "الفروع"، وهو من المفردات". اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" -2/ 494، ط: دار الفكر-: "ما قبل الزوال من يوم عرفة، فكان وقتا للوقوف كما بعد الزوال، وتركه -صلى الله عليه وآله وسلم- الوقوف فيه لا يمنع كونه وقتا للوقوف كما بعد العشاء، وإنما وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت الفضيلة". اهـ.
والمسألة الثانية: هل يجزئ الوقوف بعرفة بعد الزوال مع الدفع منها قبل غروب الشمس؟ فجمهور علماء الأمصار على أن من وقف بعرفة بعد الزوال ولو لحظة، ونفر منها في أي وقت قبل الغروب، فإن وقوفه مجزئ وحجه صحيح، ثم منهم من يوجب عليه دما كالحنفية والحنابلة؛ بناء على أن الجمع بين الليل والنهار واجب عندهم في الوقوف بعرفة.
ومنهم من لا يوجب عليه شيئا، وهو الأصح عند الشافعية ومن وافقهم كالظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد؛ بناء على أن الجمع بين الليل والنهار مستحب وليس واجبا، وخالف في ذلك الإمام مالك: فجعل ركن الوقوف بعرفة هو إدراك جزء من الليل. واستدل الجمهور بحديث عروة بن مضرس -رضي الله عنه- السابق ذكره.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" -3/ 432، ط: الكتاب العربي-: "فإن دفع -أي من عرفة- قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا مالكا، قال: لا حج له. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك". اهـ. وفي "هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك" للإمام ابن جماعة -3/ 1165، تحقيق: د. صالح الخزيم-: "وقال أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل وقف بعرفة مع الإمام من الظهر إلى العصر، ثم تذكر أنه نسي نفقته بمنى؟ قال: إن كان قد وقف بعرفة فأحب إلي أن يستأذن الإمام يخبره أنه نسي نفقته، فإذا أذن له ذهب، ولا يرجع، قد وقف، وإذا ما وقف بعرفة يرجع فيأخذ نفقته، ومن وقف بعرفة من ليل أو نهار قبل طلوع الفجر فقد تم حجه". اهـ.
وقال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" -4/ 438، ط: دار الفكر-: "فقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «فقد تم حجه» مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك، والتعبير بلفظ "التمام" ظاهر في عدم لزوم الجبر بالدم.
ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار هو الصحيح من مذهب الشافعي؛ لدلالة هذا الحديث على ذلك كما ترى. والعلم عند الله تعالى". اهـ.
والمسألة الثالثة: من وقف بعرفة جزءا من الليل قبل فجر يوم النحر ولم يقف شيئا من نهار يوم عرفة، فحجه صحيح بإجماع الفقهاء، إلا أن بعض المالكية يوجب عليه دما إذا لم يكن مراهقا -وهو من ضاق وقته حتى خشي فوات الوقوف بعرفة- أو كان ذلك بلا عذر، ولا شك أن خوف الزحام وما فيه من الخطر من النفس والبدن عذر شرعي صحيح.
قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" -9/ 275، ط: مؤسسة القرطبة-: "وقد أجمع المسلمون أن الوقوف بعرفة ليلا يجزئ عن الوقوف بالنهار، إلا أن فاعل ذلك عندهم إذا لم يكن مراهقا ولم يكن له عذر فهو مسيء؛ ومن أهل العلم من رأى عليه دما، ومنهم من لم ير عليه شيئا". اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" -3/ 432-: "ومن لم يدرك جزءا من النهار ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلا، فلا شيء عليه وحجه تام، لا نعلم مخالفا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج». ولأنه لم يدرك جزءا من النهار، فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه". اهـ.
وبناء على ذلك: فيجوز للحجاج أن يتخيروا في هذه المسائل الخلافية وغيرها ما هو أنسب بالحفاظ على صحتهم وأمنهم وسلامتهم، من جواز الوقوف والدفع من عرفة بعد الفجر وقبل الزوال كما هو رأي الحنابلة، أو الدفع منها قبل الغروب من غير جبران كما هو قول الشافعية أو بجبران على قول الحنفية والحنابلة، أو الاكتفاء بالوقوف جزءا من ليلة النحر، من غير تحرج في شيء من ذلك، فإن المحافظة على النفس من مقاصد الشريعة الكلية العليا، وهي مقدمة على الالتزام بقول بعض المجتهدين في الخلافيات ولو كانوا جمهور الفقهاء، بل إن الأخذ بالأيسر من أقوال الفقهاء يصبح واجبا إذا ترتب عليه درء ما يحدث من حالات الإصابات والوفيات الناتجة عن تزاحم الحجاج في أوقات واحدة على مناسك معينة، وليس من الفقه ولا من الحكمة تطبيق شيء مستحب أو مختلف فيه على حساب أرواح الناس ومهجهم.
ثالثا: الإسلام دين راق في تعاليمه ونظامه، فهو يهدف في العبادات الشرعية إلى أدائها بطريقة تحفظ على المكلفين أمنهم وراحتهم وسلامتهم، ويقدم المصلحة العامة في ذلك على المصلحة الخاصة، ولا مانع من ترك التقيد ببعض المذاهب الفقهية إذا كانت المصلحة في غيرها، كما قلنا في الرمي مثلا، إذ في التقيد بأدائه في بعض الأوقات دون بعض مشقة كبيرة على الحجيج، ومن القواعد الشرعية المقررة أنه "إذا ضاق الأمر اتسع".
وعلى ذلك فيمكن للجهات المسؤولة أن تنظم النفرة والإفاضة من عرفات متخيرة من أقوال الفقهاء ما يتلاءم مع أعداد الحجيج ويمنع تكدسهم وتدافعهم، ومن المقرر في قواعد الفقه الإسلامي أنه يجوز لولي الأمر تقييد المباح للمصلحة العامة، وله أن يتخير من مذاهب العلماء ما يراه محققا للمقاصد الشرعية والمصالح المرعية، فتصرفه على الرعية منوط بالمصلحة.
قال الإمام الزركشي الحنبلي في "شرحه على مختصر الخرقي" -3/ 244- 245، ط: مكتبة العبيكان-: "الإمام هو الذي إليه أمر الحج، ولا نزاع في مطلوبية اتباعه، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه؛ لأنه الأعرف بأمور الحج وما يتعلق بها، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض". اهـ.
وعليه فيجوز لحكام المسلمين القائمين على تنظيم الحج أن يتخيروا من المذاهب الفقهية المعتبرة ما يرونه أنسب لسلامة الحجاج وأقرب لأمنهم وراحتهم، ويجوز لهم أن يجعلوا النفرة من عرفات على مرتين أو أكثر حسبما تقتضيه المصلحة العامة للحجيج، ولا يعد هذا تغييرا لمناسك الحج بحال من الأحوال، وإنما يكون حسن تطبيق لشعائر الله تعالى مع رعاية ضيوفه والمحافظة على وفده سبحانه، فإن الحجاج والعمار وفد الله تعالى، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، كما جاء في الحديث الشريف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
المبادئ:-
1- من المقرر شرعا أن حدود مشاعر الحج ومناسكه وحدود الحل والحرم من الأمور الثابتة بإجماع المسلمين سلفا وخلفا.
2- لا يجوز توسيع رقعة عرفة خارج حدودها التي أجمع عليها المسلمون.
3- أجمع العلماء على أن ما بعد الزوال هو وقت صحيح للوقوف بعرفة، وأن وقت الوقوف ينتهي بطلوع فجر يوم النحر.
4- من المقرر شرعا أنه إذا ضاق الأمر اتسع.
5- يجوز لولي الأمر تقييد المباح للمصلحة العامة.
دار الإفتاء المصرية
رقم الفتوى: 2009 لسنة 2009 تاريخ النشر في الموقع : 15/12/2017