• حكم ذهاب النساء للمساجد عند الحنفية

    ما هو الرأي المعتمد عند الحنفية بخصوص دخول النساء للمساجد من أجل الصلاة؟ حيث إن هناك مجموعة من متبعي المذهب الحنفي في بريطانيا يقولون: إن ذهاب النساء للمساجد مكروه كراهة تحريم، وبناء عليه فإنهم لا يخصصون مساحات للنساء في المساجد. فهل يجوز ذلك؟

    هذه المسألة ورد فيها أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، وفي رواية لهما: «إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها»، زاد أبو داود في روايته: «وبيوتهن خير لهن»، وهذا يقتضي أن خروجها للمسجد جائز، وظاهره يدل على وجوب إذن الزوج لها إذا استأذنته في ذلك، إلا أن الجمهور حملوه على الاستحباب، وذهب الحنفية في المنقول عنهم إلى الحكم بكراهة خروج النساء للمساجد لشيوع الفساد وتغير الزمان؛ مستدلين في ذلك بقول عائشة -رضي الله عنها-: "لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل".

    وهذه الكراهة وإن حملها بعض المتأخرين من الحنفية على الكراهة التحريمية كالحافظ العيني في "عمدة القاري" (6/ 156 ط: دار إحياء التراث العربي) إلا أن الذي يفهم من نصوص المتقدمين من أئمة الحنفية في هذه المسألة هو الكراهة التنزيهية فقط، حيث عبر عنها صاحب المذهب -رضي الله عنه- بقوله: لا ينبغي، وعبر عنها صاحبه الإمام محمد -رحمه الله- بقوله: وليس على النساء خروج العيدين بما يفهم منه نفي الوجوب عليهن لا نفي الجواز لهن.

    كما أنهم جعلوا الكراهة للمرأة الشابة فقط، أما العجائز فلا كراهة في خروجهن مطلقا عند الصاحبين، ولا كراهة في خروجهن للعشاء والفجر والعيدين عند الإمام أبي حنيفة، ويكره عنده خروجهن للظهر والعصر والجمعة، وإذا خرجن للعيدين عنده فهل يصلين أم يشهدن العيد مع الناس بلا صلاة؟ روايتان.

    قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة في كتابه "الحجة على أهل المدينة" (1/ 306 ط: عالم الكتب): "قال أبو حنيفة - رضي الله عنه- في خروج النساء في العيدين: قد كان يرخص فيه، فأما اليوم فلا ينبغي أن تخرج إلا العجوزة الكبيرة فإنه لا بأس بخروجها". اهـ.

    وقال الشيخ برهان الدين في "المحيط" (2/ 208، 209 ط: دار إحياء التراث العربي): "قال محمد -رحمه الله- في الأصل:... وليس على النساء خروج العيدين، وكان يرخص لهن في ذلك.

    قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك، وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة، وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين.

    وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء". اهـ.

    وقال أيضا (2/ 211): "ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المعلى عن أبي يوسف -رحمه الله- عن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنه لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين". اهـ.

    والقول بالكراهة وحدها دون إشارة إلى حملها على التحريم هو ما نص عليه أيضا الإمام السرخسي في "المبسوط"، والإمام أبو الحسين القدوري في "مختصره"، والعلامة المرغيناني في "بداية المبتدي"، وأبو الفضل بن مودود الموصلي في "الاختيار لتعليل المختار"، والخطيب التمرتاشي في "تنوير الأبصار"، و"الفتاوى الهندية"، وغيرها من كتب السادة الحنفية المتقدمين والمتأخرين.

    ومما يُقوي حمل الكراهة عند متقدمي الحنفية على التنزيهية دون التحريمية: أنهم فرعوا على حضور النساء جماعة المسجد فروعا كثيرة؛ كموقف النساء من الجماعة، ونية الإمام إمامة المرأة فيها، وصحة اقتدائها في الجمعة والعيدين وإن لم ينو إمامتها، ومشروعية نية الإمام لها في تسليمه في انتهاء الصلاة، إلى غير ذلك من الأحكام التي يبعد أن تجامع القول بالتحريم.

    بل إنهم نصوا على أن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة جائز، زاد بعض الحنفية: مع الكراهة، وهذا يقتضي أن مرادهم الكراهة التنزيهية لا التحريمية؛ إذ الجواز لا يجامع التحريم.

    قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 216 ط: دار الفكر): "وقد روى الحسن عن أبي حنيفة -رحمهما الله تعالى-: أنها إذا اعتكفت في مسجد الجماعة جاز ذلك، واعتكافها في مسجد بيتها أفضل، وهذا هو الصحيح". اهـ.

    وجاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 211 ط: دار الفكر): "ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز ويكره". هكذا في محيط السرخسي. اهـ.

    والذي يظهر أن في هذه المسألة تدرجا في الحكم عند الحنفية بناء على اختلاف الزمان، كما يلمح إليه كلام الحافظ العيني في "عمدة القاري" (6/ 156) في قوله: "قال أصحابنا: لأن في خروجهن خوف الفتنة، وهو سبب للحرام، وما يفضي إلى الحرام فهو حرام؛ فعلى هذا قولهم: "يكره" مرادهم: يحرم، لا سيما في هذا الزمان؛ لشيوع الفساد في أهله". اهـ.

    فاكتفى المتقدمون بالقول بالكراهة، ثم لما زاد الفساد وانتشر عدى المتأخرون الحكم إلى التحريم.

    وهذه المسألة من المسائل المتعلقة بالعوائد والأعراف عند السادة الحنفية؛ كما نص على ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" المطبوعة ضمن مجموعة رسائله (2/ 126)؛ حيث بنوا الكلام فيها والخلاف حولها تأصيلا وتفصيلا وتعليلا على تغير الحكم لتغير العرف؛ سواء في أصل قولهم بالكراهة وعدولهم عن ظاهر الحديث وعما كان عليه الحال في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو في تفريقهم بين الصلوات في كراهة خروج المرأة لبعضها دون بعض، أو في اختلافهم هل تصلي العجوز مع الناس عندما تخرج للعيدين أو تحضر المصلى من غير صلاة؟ أو في مخالفة المتأخرين لذلك كله واعتماد منع الكل في الكل؛ كما يتضح من صنيعهم وتعليلهم لذلك كله فيما يأتي.

    قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (2/ 74): "وأبو حنيفة -رضي الله عنه- قال في صلوات الليل: تخرج العجوز مستترة وظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليها، بخلاف صلوات النهار والجمعة تؤدى في المصر؛ فلكثرة الزحام ربما تصرع وتصدم، وفي ذلك فتنة، فإن العجوز إذا كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها، وربما يحمل فرط الشبق الشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد فتؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم". اهـ.

    وقال العلامة المرغيناني في "الهداية شرح البداية" (1/ 57 ط: المكتبة الإسلامية): ""ويكره لهن حضور الجماعات" يعني الشواب منهن؛ لما فيه من خوف الفتنة، "ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.

    "وقالا: يخرجن في الصلوات كلها" لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها فلا يكره كما في العيد.

    وله: أن فرط الشبق حامل فتقع الفتنة، غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة، أما في الفجر والعشاء فهم نائمون، وفي المغرب بالطعام مشغولون، والجبانة متسعة فيمكنها الاعتزال عن الرجال فلا يكره". اهـ.

    ولما تغيرت هذه الأعراف في أزمان متأخري الحنفية اضطروا إلى تغيير هذه التفصيلات في المسألة، حيث صار خروج المرأة للمسجد في زمنهم ذريعة للفساد والفتنة بها، وكثر انتشار الفساق على مدار اليوم، فأفتى المتأخرون باعتماد منع الكل في الكل؛ أي منع كل النساء من حضور كل الصلوات في كل الأوقات، كما قرره الحصكفي في "الدر المختار" (1/ 566 ط: دار الفكر)، واستثنى الكمال العجائز المتفانية، مخالفين بذلك ما عليه الإمام وصاحباه.

    قال العلامة الكمال بن الهمام -رحمه الله تعالى- في "شرح فتح القدير" (1/ 366 ط: دار الفكر): "الفساق في زماننا كثر انتشارهم وتعرضهم بالليل؛ وعلى هذا ينبغي على قول أبي حنيفة تفريع منع العجائز ليلا أيضا، بخلاف الصبح فإن الغالب نومهم في وقته، بل عمم المتأخرون المنع للعجائز والشواب في الصلوات كلها لغلبة الفساد في سائر الأوقات". اهـ.

    وقال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 307 ط: دار عالم الكتب): "قال في "البحر": وقد يقال: هذه الفتوى التي اعتمدها المتأخرون مخالفة لمذهب الإمام وصاحبيه، فإنهم نقلوا أن الشابة تمنع مطلقا اتفاقا، وأما العجوز فلها حضور الجماعة عند الإمام إلا في الظهر والعصر والجمعة، أي وعندهما مطلقا، فالإفتاء بمنع العجائز في الكل مخالف للكل؛ فالاعتماد على مذهب الإمام". اهـ.

    قال في "النهر": "وفيه نظر؛ بل هو مأخوذ من قول الإمام؛ وذلك أنه إنما منعها لقيام الحامل وهو فرط الشهوة؛ بناء على أن الفسقة لا ينتشرون في المغرب؛ لأنهم بالطعام مشغولون، وفي الفجر والعشاء نائمون، فإذا فرض انتشارهم في هذه الأوقات لغلبة فسقهم كما في زماننا بل تحريهم إياها، كان المنع فيها أظهر من الظهر". اهـ.

    ويتضح من هذه النصوص كلها أن هذه المسألة بأصلها وتفريعاتها مبنية على أعراف الناس، وأن المصلحة المتوخاة فيها هي: الحفاظ على أمن المرأة وسلامتها من جهة، وسد ذريعة الفتنة بها أو عليها من جهة أخرى، وهذا أمر لا يختص بخروجها للصلاة، بل هو عام في خروجها من بيتها ابتداء؛ ولذلك فلا معنى لتخصيص الخروج بالصلاة؛ ولهذا علل الشيخ برهان الدين في "المحيط" (2/ 209) كراهة حضور النساء لجماعة المسجد بأنهن مأمورات بالقرار في البيوت، ومنهيات عن الخروج، وأنه إنما أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات، ثم منعن بعد ذلك؛ لما في خروجهن من الفتنة.

    ولا يخفى على عاقل أن هذه الأعراف التي بنيت عليها هذه الأحكام كلها في أصلها أو تفصيلها قد تغيرت تغيرا كاملا في بلاد المسلمين فضلا عن بلاد غير المسلمين التي هي موضع السؤال؛ فلم تعد المرأة مقصورة على بيتها، بل فرضت عليها طبيعة العصر أن أصبحت تشارك الرجال في الخروج للتعلم والتعليم والعمل وتقلد الوظائف وقضاء المصالح، وصارت موجودة في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، ولم يعد هناك حكر على خروجها إلى التجمعات والمنتديات العامة، بل ولا يمكن لزوجها في بلاد غير المسلمين أن يمنعها من الخروج من بيتها أصلا، بل تستطيع إذا أرادت أن تذهب إلى أي مكان شاءت، فكيف توصد أمامها مع هذا كله أبواب المساجد؛ لتصبح بيوت الله تعالى هي الأماكن الوحيدة التي لا يمكن للنساء دخولها؟! بل إن ارتياد المرأة للمسجد أصبح في الأعم الأغلب مانعا من تعرض الفساق لها أو فتنتها أو الفتنة بها، وصار الحفاظ على أمن المرأة وسلامتها خاضعا لعوامل أخرى أكثر تعقيدا من العامل الزمني، وتغير الحال في دول الغرب وغيرها، بحيث أصبح القول بمنعها من الصلاة في المساجد مع خروجها لمجالات الحياة المختلفة في شتى نواحيها ومع اختلاطها بالأصناف المختلفة من البشر نوعا من التناقض وضربا من السطحية وإيغالا في الظاهرية المحضة التي تنأى عنها أصول مذاهب الفقهاء المتبوعين، خاصة مذهب السادة الحنفية الذي حكم به المسلمون في أكثر تاريخهم ومعظم بلدانهم بحيث صار من أكثر المذاهب مرونة وسعة واستيعابا للحوادث والنوازل.

    بل أصبحت المرأة المسلمة في تلك البلدان وغيرها أشد احتياجا واضطرارا إلى ارتياد المساجد لمعرفة أحكام دينها وتلمس طريقها في عباداتها ومعاملاتها بل وفي ثباتها أصالة على دينها من أي وقت مضى، وحاجتها إلى ذلك أشد من حاجة من هي في ديار المسلمين؛ حتى ليكاد يكون ذلك في كثير من الأحيان واجبا عليها؛ لصيرورته السبيل الوحيد لمعرفة دينها، حيث إن المساجد في بلاد غير المسلمين ليست مجرد أماكن لأداء الصلوات بقدر ما أصبحت مراكز لتجمع المسلمين ومعرفة أمور دينهم والاطلاع على أحوالهم والتكافل والتعاون على الخير فيما بينهم، فكيف يقال مع هذا كله: إن مذهب السادة الحنفية أن المساجد توصد أمام النساء ويمنعن من دخولها، أو لا يخصص لهن فيها مكان؟! كما أن إدراك المرأة المسلمة العاملة في دول الغرب للصلاة مرهون في كثير من الأحيان بصلاتها في المسجد، وإلا فإنها لن تجد مكانا تؤدي فيه صلاتها، وستضطر حينئذ إلى ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، فإذا علمنا أن الجمع بين الصلوات غير مشروع أصلا عند السادة الحنفية، فإن عدم تخصيص مكان لها في المسجد أو عدم السماح لها بدخوله سيفوت عليها صلاتها ويضيع عليها وقتها، بل لا يخفى أن صلاتها في المسجد حينئذ واجبة حتى مع القول بكراهة خروجها له ابتداء؛ لأن ارتكاب أخف الضررين واجب لدفع أعلاهما، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والأمر هنا دائر بين ضياع صلاتها وأدائها في المسجد، فكيف تمنع من أمر صار واجبا عليها شرعا؟ بل يخشى على مانعها أن يدخل في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى[٩] عَبْدًا إِذَا صَلَّى[١٠]﴾ [العلق: 9 - 10].

    فإذا انضاف إلى ذلك أن هذه المساجد هي واجهات للإسلام تعبر عنه في دول الغرب، وليست حكرا على مذهب معين، بل هي بطريقة تنظيمها معيار ودلالة على نبل تعاليمه ورقي نظامه وأخلاق أتباعه وكيفية تعامله مع الناس بحيث إن ذلك مما يحببهم في الإسلام أو ينفرهم عنه، وكان الأخذ بهذا الرأي الذي تغير واقعه قد يفهمه غير المسلمين في تلك الدول خطأ من أن الإسلام يحتقر المرأة ولا يعيرها التفاتا ولا اهتماما حتى في دور العبادة، فيتهم الدين الإسلامي بأنه يدعو إلى التمييز بين الرجل والمرأة حتى في التكاليف الشرعية، هذا مع ما هم عليه من الخوف من الإسلام بسبب تصرفات بعض الجهلة من المسلمين أو من ينتسب إليهم من جهة وتلبيس الأعداء وتشويههم لصورتهم العظيمة من جهة أخرى، فإن كل ذلك يجعل مثل هذا التصرف والدعوة إليه في هذه الأحوال العصيبة نوعا من الصد عن سبيل الله تعالى؛ لأنه تشويه لصورة الإسلام وفتنة لغير المسلمين واستعداء لهم على المسلمين، ولا علاقة له حينئذ لا بمذهب السادة الحنفية ولا بغيرهم، بل هو معصية محضة وبدعة في الدين ما أنزل الله بها من سلطان ولم يعرفها المسلمون في عصر من العصور؛ بل ينال مرتكبها إثمها ووبالها وعاقبة أمرها.

    وقد أجمع العلماء بجميع مذاهبهم الفقهية المتبوعة على أن الأحكام المتعلقة بالعوائد والأعراف تدور معها وجودا وعدما؛ فتوجد بوجودها وتنعدم بانعدامها.

    قال الإمام القرافي في كتابه "الفروق" (1/ 322، 323 ط: دار الكتب العلمية): "الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا؟ وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين". اهـ.

    وقال في موضع آخر (1/ 74): "فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها، وبالإحاطة بها يظهر لك أن إجراء الفقهاء المفتين للمسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار إن كانوا فعلوا ذلك مع وجود عرف وقتي ففعلهم خطأ على خلاف الإجماع، وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها ولا عالمين بمداركها وشروطها واختلاف أحوالها". اهـ.

    ونص السادة الحنفية أنفسهم على هذا المعنى وأشبعوه تأكيدا؛ حتى صنف خاتمة المحققين من الحنفية العلامة ابن عابدين رسالته "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف"، المطبوعة ضمن "مجموعة رسائل ابن عابدين"، ونقل فيها عن العلماء المحققين من السادة الحنفية أن الإنسان لو حفظ جميع كتب الحنفية ومسائلها ودلائلها وظاهر الرواية فيها فإن هذا كله لا يكفيه في الفتوى حتى يبنيها على عرف أهل زمانه وعاداتهم، وإلا كان ضرره أعظم من نفعه. فحقق في رسالته هذه (2/ 116) أن العرف عند الحنفية يخصص النص ويترك به القياس.

    ونقل عن أئمة الحنفية (2/ 129) أن المفتي لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، قال: "ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإن المجتهد لا بد له من معرفة عادات الناس كما قدمناه، فكذا المفتي؛ ولذا قال في آخر "منية المفتي": لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها؛ لأن كثيرا من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة، انتهى. وقريب منه ما نقله في "الأشباه" عن "البزازية" من أن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة.

    وقال في "فتح القدير" ما نصه: والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس". اهـ.

    وقال أيضا (2/ 131): "فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلا يضيع حقوقا كثيرة ويكون ضرره أعظم من نفعه". اهـ.

    وقال أيضا (2/ 115): فصل: قال في "القنية": ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف.

    ونقل المسألة عنه في "خزانة الروايات" كما ذكره البيري في "شرح الأشباه". اهـ.

    كما أكد أن العمل بما يقتضيه العرف هو عين الأخذ بالمذهب، وساق فيها كثيرا من الفروع الفقهية التي خالف فيها مشايخ المذهب الحنفي ما نص عليه أئمتهم في مواضع كثيرة بنوها على ما كان في زمنهم؛ متمسكين في ذلك بمناهجهم وقواعدهم، لا بخصوص مسائلهم التي تغير واقعها وتبدلت أعرافها، وأن المتقدمين لو أدركوا زمن المتأخرين لقالوا بما قالوا به.

    يقول رحمه الله في ذلك (2/ 125- 126): "اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص، وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولا؛ ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس؛ فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام؛ ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه؛ لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به؛ أخذا من قواعد مذهبه.

    فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه؛ لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن، ومن ذلك مسائل كثيرة؛ كتضمين الأجير المشترك، ومنع النساء عما كن عليه في زمن النبي -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- من حضور المساجد لصلاة الجماعة. اهـ.

    وقال أيضا (2/ 128): "فإن قلت: العرف يتغير ويختلف باختلاف الأزمان، فلو طرأ عرف جديد هل للمفتي في زماننا أن يفتي على وفقه ويخالف المنصوص في كتب المذهب؟ وكذا هل للحاكم الآن العمل بالقرائن؟ قلت: مبنى هذه الرسالة على هذه المسألة، فاعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه". اهـ.

    وقال في الهامش: "وقد سمعناك ما فيه الكفاية من اعتبار العرف والزمان واختلاف الأحكام باختلافه، فللمفتي الآن أن يفتي على عرف أهل زمانه وإن خالف زمان المتقدمين، وكذا للحاكم العمل بالقرائن في أمثال ما ذكرناه حيث كان أمرا ظاهرا". اهـ.

    ثم إن القول بكراهة خروجهن إلى المسجد -سواء حملت على التنزيه أو التحريم- لا يستلزم بحال من الأحوال عدم تخصيص مكان لهن للصلاة في المساجد؛ لعدة أسباب:

    1- أن المعتمد عند بعض المحققين من الحنفية عدم كراهية خروج العجائز في كل الأوقات أو في بعضها، وحتى في المعتمد عند المتأخرين استثنى منه الكمال بن الهمام العجائز المتفانية، وهذا يقتضي أن يجعل لهن مكان يصلين فيه.

    2- أن القول بكراهة حضور المرأة جماعة المسجد ومنعها من ذلك إنما يقصد به منعها من الخروج من بيتها ابتداء، لا منعها من دخول المسجد إذا خرجت، ومن المقرر في قواعد الفقه أنه يجوز في الدوام ما لا يجوز في الابتداء، فإذا كانت خارج بيتها فعلا فلا يجوز منعها من دخول المسجد بحال من الأحوال في أي مذهب من المذاهب الفقهية، وإلا يخشى على مانعها أن يدخل بذلك في الظلم الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة: 114].

    3- أن تخصيص مكان في المسجد للنساء أمر مشروع عند السادة الحنفية حتى مع قولهم بكراهة خروجهن لحضور جماعة المسجد؛ حيث نصوا صراحة كما سبق على جواز اعتكافهن في المسجد مع قولهم بأفضلية اعتكافهن في بيوتهن، وهذا يستلزم جواز تخصيص مكان لاعتكافهن عند الحنفية كما يستلزم السماح لهن بدخول المسجد، كما أنهم أيضا نصوا على مكان وقوف النساء من جماعة المسجد، وذكر مكان ائتمامهن يستلزم جواز تخصيصه أصالة، وإلا لم يكن لذكر الائتمام معنى، قال في "الفتاوى الهندية" (1/ 89 ط: المطبعة الأميرية بولاق): "ولو اجتمع الرجال والصبيان والخناثى والإناث والصبيات المراهقات: يقوم الرجال أقصى ما يلي الإمام، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم الإناث، ثم الصبيات المراهقات. كذا في شرح الطحاوي". اهـ.

    4- أن هناك فارقا بين تحرير المعتمد في منقول المذهب وبين تحديد ما عليه العمل والفتوى التي تعتمد على تغير الأعراف والأحوال والزمان والمكان، وعلى القواعد العملية التي تحكم العلاقة في التعامل بين المسلمين بمختلف مذاهبهم الفقهية؛ كقولهم: لا ينكر المختلف فيه إنما ينكر المتفق عليه، وأنه يجوز للمسلم أن يتخير من أقوال المذاهب المختلفة ما هو أقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة، وأن التمذهب بمذهب معين لا يستلزم التقيد بكل مسائله حتى وإن كان ذلك خلاف المصلحة الراجحة أو كان فيه حرج على المكلف.

    5- أن الكراهة -تنزيهية أو تحريمية- متوجهة إليهن لا إلى غيرهن، وهذا لا يستلزم منعهن من دخول المسجد إذا خرجن من بيوتهن؛ ولذلك أجاب العلامة الطحطاوي في حاشيته على "مراقي الفلاح" (ص183 ط: بولاق) عن القول بأن الإمام ينوي الرجال والملائكة الحفظة فقط ولا ينوي النساء إذا قال: "السلام عليكم ورحمة الله". بأن الجهة منفكة؛ فلا يلزم من كراهة حضورهن عدم نية الإمام لهن في سلامه؛ لأن الكراهة عليهن وحدهن، أما الإمام فمطلوب منه أن ينويهن إذا صلين معه.

    6- أن كثيرا من المذاهب الأخرى قالت بجواز خروج النساء للمسجد، والمسجد بيت الله الذي يجتمع فيه عباده المسلمون المصلون أيا ما كانت مذاهبهم؛ أي أن الإسلام أكبر من المذاهب الفقهية وخلافاتها، فلا ينبغي للقائمين على أمور المسلمين أن يتحجروا في هذه المسائل واسعا، ولا أن يتشددوا في أمر اختلف فيه المسلمون، بل عليهم أن يستوعبوا إخوانهم المسلمين من بقية المذاهب الفقهية، وأن يبحثوا عن المعاني الجامعة التي تؤلف ولا تفرق، وعليهم أن يتمثلوا أدب الخلاف كما كان عليه الأئمة -رضي الله عنهم-، فهذا الإمام أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية مع أنهم كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرا ولا جهرا.

    وهذا الإمام أبو يوسف يصلي خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه الإمام مالك أنه لا وضوء عليه، فلم يعد مع أنه يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من ذلك، فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟ وهذا الإمام الشافعي يصلي الصبح بغير قنوت في بغداد، قرب قبر الإمام أبي حنيفة، فسئل عن ذلك فقال: أخالفه وأنا في حضرته، وكذلك فعل أبو العباس الدغولي الشافعي حيث ترك القنوت في الصبح في غير بلده، فلما سئل عن ذلك قال: لراحة الجسد، وسنة أهل البلد، ومداراة للأهل والولد، كما نقله عنه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 559).

    وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما سطر في كتب السادة الحنفية من منع النساء من الخروج لجماعة المسجد إنما كان في أزمنة اقتضت أعرافها وعاداتها ذلك، وهو لا يعني بحال من الأحوال منعها من دخول المسجد إذا خرجت فعلا، وأن توصد أمامهن المساجد، ولا يقتضي مشروعية بناء المسجد بحيث لا يخصص للنساء فيه مكان يستترن بالصلاة فيه عن الرجال، فهذه بدعة محضة لم يعرفها المسلمون على اختلاف أعصارهم وأمصارهم، ولا علاقة لذلك بمذهب السادة الحنفية -رضي الله عنهم- من قريب ولا بعيد، ولا قبيل ولا دبير، ويجب منع مثل هذا التصرف والأخذ على يد من يدعو إليه، خاصة في بلاد غير المسلمين؛ لما فيه من صدهم عن الإسلام، وإيغار صدورهم على المسلمين.

    والسادة الحنفية بنوا مسألة خروج المرأة من بيتها لحضور جماعة المسجد على العرف، وعلقوا الحكم فيها على تغير العرف تنظيرا وتطبيقا؛ بدءا من تخيرهم خلاف ما كان عليه الحال في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومرورا بتفريقهم في الحكم بين النساء وبين أوقات الصلوات، وانتهاء بمنع متأخريهم الكل في الكل خلافا لما عليه الإمام وصاحباه.

    وتمشيا مع ذلك كله ومع تغير الأعراف والعادات فالذي تقتضيه قواعد المذهب الحنفي وينبغي اعتماده في هذا الزمان هو العودة بالحكم إلى الأصل الذي كان عليه في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من إباحة خروج النساء للمساجد مطلقا، خاصة في بلاد غير المسلمين؛ حيث يجددن فيها إيمانهن ويلتقين فيها بأخواتهن، ويتعلمن فيها أمور دينهن.

    هذا كله ما لم يؤد ذلك إلى فتنة بهن أو خوف عليهن، وما لم يؤد إلى إخلال بحق الأسرة من تضييع لحقوق أزواجهن أو أولادهن؛ وذلك لأن غالب النساء قد خرجن فعلا من بيوتهن للمشاركة في مجالات الحياة المختلفة، وما دمن قد خرجن فعلا فلا معنى لمنعهن من دخول بيوت الله تعالى إذا أردن ذلك، مع التنبيه في ذلك كله أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد ما لم يكن ذلك لغرض آخر غير الصلاة لا يتم إلا في المسجد؛ كمعرفة أحكام دينها التي لا تتيسر لها إلا فيه، فذهابها إلى المسجد حينئذ أفضل لهذا المعنى لا لمجرد الصلاة.

    والله سبحانه وتعالى أعلم

    المبادئ:-
    1- ذهب الجمهور إلى جواز خروج المرأة للمسجد، واستحباب إذن الزوج لها في ذلك، بينما بنى الحنفية الكلام في هذه المسألة والخلاف حولها على تغير الحكم لتغير العرف فذهب المتقدمون إلى كراهة خروجها للمسجد؛ لشيوع الفساد وتغير الزمان، ثم لما زاد وانتشر عدى المتأخرون الحكم إلى التحريم.

    2- أجمع العلماء بجميع مذاهبهم الفقهية المتبوعة على أن الأحكام المتعلقة بالعوائد والأعراف تدور معها وجودا وعدما.

    3- من القواعد المقررة شرعا: أن ارتكاب أخف الضررين واجب لدفع أعلاهما، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأنه يجوز في الدوام ما لا يجوز في الابتداء، وأنه لا ينكر المختلف فيه إنما ينكر المتفق عليه، وأنه يجوز للمسلم أن يتخير من أقوال المذاهب ما هو أقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة، وأن التمذهب بمذهب معين لا يستلزم التقيد بكل مسائله حتى وإن كان ذلك خلاف المصلحة الراجحة أو كان فيه حرج على المكلف.

    4- إذا كانت المرأة خارج بيتها فعلا فلا يجوز منعها من دخول المسجد بحال من الأحوال في أي مذهب من المذاهب، وتخصيص مكان في المسجد للنساء أمر مشروع عند السادة الحنفية.

    5- الذي تقتضيه قواعد المذهب الحنفي وينبغي اعتماده في هذا الزمان هو العودة بحكم خروج النساء إلى المساجد إلى الأصل الذي كان عليه في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من إباحة خروجهن لها مطلقا، ما لم يؤد ذلك إلى فتنة بهن أو خوف عليهن، وما لم يؤد إلى إخلال بحق الأسرة.

    6- صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد ما لم يكن ذلك لغرض آخر غير الصلاة لا يتم إلا في المسجد.
     

    دار الإفتاء المصرية

    رقم الفتوى: 1078 لسنة 2009 تاريخ النشر في الموقع : 15/12/2017

    المفتي: علي جمعة محمد
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة