حكم ردّ الخطيب على المنبر إذا أخطأ في الآيات القرآنية
هل يجوز رد الخطيب على المنبر إذا أخطأ في الآيات القرآنية وما إلى ذلك؟
الإنصات للخطيب ممن حضر الجمعة مأمور به شرعا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت». متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الولي أبو زرعة العراقي في "طرح التثريب" 3/ 193- 194: "استدلا به على وجوب الإنصات للخطبة وتحريم الكلام فيها؛ إذ لم تغتفر هذه الكلمة مع خفتها وكونها أمرا بمعروف محتاج إليه في تلك الحالة، فما عداها أولى بالمنع، وهذا أحد قولي الشافعي، نص عليه في القديم والإملاء، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب أحمد.
والقول الثاني للشافعي أن الإنصات سنة والكلام ليس بحرام، وهو نصه في الجديد، وهو رواية عن أحمد حكاها ابن قدامة".
وقال الشيخ النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" 1/ 263: "ووجه الدلالة منه أنه سمى الأمر بالمعروف فيه لغوا، واللغو: الكلام الذي لا خير فيه، وما نفي عنه الخير على سبيل الاستغراق نصا أو ظهورا يقبح التكلم به، بل يحرم في هذا المقام".
ولما كانت الجمعة بدلا عن الظهر وكانت ركعتين فإن خطبتها قائمة مقام الركعتين، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما رواه ابن أبي شيبة 2/ 36، وعبد الرزاق 3/ 237 في مصنفيهما، ولذلك فقد ذهب السادة الحنفية إلى أن كل ما حرم في الصلاة حرم في الخطبة: من أكل وشرب وكلام ولو تسبيحا أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر؛ لأنها منزلة منزلة ركعتي الظهر، وذلك من وقت خروج الخطيب من خلوته وحتى انتهائه من خطبته، وأنه لا يعترض عليه حتى لو حصل منه لغو بذكر الظلمة، قال الإمام الحصكفي في "الدر المختار": "وكل ما حرم في الصلاة حرم فيها" أي في الخطبة. خلاصة وغيرها.
فيحرم أكل وشرب وكلام ولو تسبيحا، أو رد سلام، أو أمرا بمعروف؛ بل يجب عليه أن يستمع ويسكت "بلا فرق بين قريب وبعيد" في الأصح. محيط.
ولا يرد تحذير من خيف هلاكه؛ لأنه يجب لحق آدمي وهو محتاج إليه، والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة".
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" 1/ 858: "قوله: "من خيف هلاكه".
قلت: وهذا حيث تعين الكلام؛ إذ لو أمكن بغمز أو لكز لم يجز الكلام. تأمل".
وقال الإمام الكمال بن الهمام في "فتح القدير" 2/ 68: "يحرم في الخطبة الكلام وإن كان أمرا بمعروف أو تسبيحا، والأكل والشرب والكتابة، ويكره تشميت العاطس ورد السلام".
وقال العلامة الطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح" 282: "وفي الخلاصة: كل ما حرم في الصلاة حرم حال الخطبة ولو أمرا بمعروف، وفي السيد: استماع الخطبة من أولها إلى آخرها واجب وإن كان فيها ذكر الولاة، وهو الأصح. نهر".
والقول بوجوب الإنصات للخطيب حتى لو لغا مروي عن جماعة من السلف أيضا؛ فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 32- 33 عن إبراهيم النخعي أنه قيل له: إن الكتب تجيء من قبل قتيبة فيها الباطل والكذب، فأكلم صاحبي أو أنصت؟ قال: لا، بل أنصت، يعني في الجمعة، وعن الحسن البصري أنه كان يكره الكلام والصحف تقرأ"، قال الولي العراقي في "طرح التثريب" 3/ 193: "فطرد النخعي والحسن منع الكلام في الخطبة وسدا الباب في ذلك".
كما أنه مروي أيضا عن الإمام مالك؛ قال ابن بطال في "شرح البخاري": "وروى ابن وهب وابن قانع وعلي بن زياد عن مالك: أن الإمام إذا لغا وشتم الناس فعلى الناس الإنصات".
وإنما ذهب هؤلاء الأئمة إلى ذلك حفاظا على قدسية شعائر صلاة الجمعة، وسدا لباب التشويش والمرج واللغط الذي يمكن حدوثه من جراء الرد على الخطيب، وحفظا لهيبة العلماء في نفوس الناس.
ومع قول الشافعية بأن الإنصات سنة وليس واجبا في المعتمد عندهم إلا أنهم نصوا مع المالكية أن الإمام والخطيب لا يفتح عليه إلا [إذا] استفتح -أي طلب الفتح-، وأنه لا يلقن ما دام مترددا حتى يقف طلبا للفتح، حتى لو خرج من سورة إلى سورة، ما دام لم يخلط آية رحمة بآية عذاب أو يغير تغييرا يقتضي كفرا: قال الإمام الباجي المالكي في "المنتقى شرح الموطأ" 1/ 152: ""مسألة": والفتح على الإمام إنما يكون إذا أرتج عليه، وإذا غير قراءته: فأما من الإرتاج عليه: فهو إذا وقف ينتظر التلقين. رواه ابن حبيب عن مالك.
وأما إذا غير القراءة: فلا يفتح إذا خرج من سورة إلى سورة أو من آية إلى أخرى ما لم يخلط آية رحمة بآية عذاب أو يغير تغييرا يقتضي كفرا، فإنه ينبه على الصواب".
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" 4/ 401-402: ""الرابعة عشرة": قال الشافعي في المختصر: وإذا حصر الإمام لقن، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب: ونص في مواضع أخر أنه لا يلقن.
قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: ليست على قولين، بل على حالين، فقوله: "يلقنه" أراد إذا استطعمه التلقين بحيث سكت ولم ينطق بشيء، وقوله: "لا يلقنه" أراد ما دام يردد الكلام ويرجو أن ينفتح عليه، فيترك حتى ينفتح عليه، فإن لم ينفتح لقن، واتفق الأصحاب على أن مراد الشافعي هذا التفصيل وأنها ليست على قولين".
وهذا المعنى رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 1/ 521 عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- أنه قال: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه".
ونص الشافعية على أنه إن علم من حال الخطيب أنه يدهش من الرد عليه فإنه يترك ولا يرد عليه: قال الإمام الزركشي في "المنثور في القواعد" 1/ 401- 402: "تلقين الإمام يشرع في موضعين: أحدهما القراءة في الصلاة إذا أرتج عليه، ولا يلقن ما دام يتردد بل حتى يقف، قاله المتولي.
الثاني في الخطبة إذا حضر، ولا يلقن حتى يسكت، قاله الدارمي في الاستذكار.
قال: ويرد عليه ما يعلم أنه ليس يفتح له، وقال الشاشي في المعتمد: فإن أرتج عليه لقن في الخطبة.
نص عليه، وقال في موضع آخر: لا يلقن، والمسألة على اختلاف حالين، فحيث قال: "يلقن" إذا وقف بحيث لا يمكنه أن يفتح عليه، وحيث قال: "لا يلقن" إذا كان تردد ليفتح عليه، قال في الاستقصاء: إن علم من حاله أنه إن فتح عليه انطلق فتح عليه، وإن علم أنه يدهش تركه على حاله".
وقال الشهاب الرملي في حاشيته على أسنى المطالب 1/ 258: ""فرع" وإذا ارتج في الخطبة لا يلقن ما دام يردد، فإذا سكت يلقن".
وهذا كله لما لمقام الخطابة وارتقاء المنابر من الهيبة في مواجهة الناس والخوف من الزلل وحساسية النفس البشرية من النصح على الملأ، حتى قيل لعبد الملك بن مروان: عجل عليك الشيب؟ فقال: شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن، وقال أيضا: وكيف لا يعجل علي وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين؟ قال الجاحظ: يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الأمور. العقد الفريد لابن عبد ربه 2/ 308، والبيان والتبيين للجاحظ 1/ 85، وتاريخ دمشق للإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر 37/ 138- 139.
وروي عن الإمام الشافعي أنه قال: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لم تعط طاعة ولهيبة الخطبة وجلالها وشدة موقفها على الخطيب نص الحنابلة على أنه يجوز لمن لا يحسن الخطبة أن يقرأها من صحيفة، قال ابن مفلح في "الفروع" 2/ 117: "ولمن لا يحسن الخطبة قراءتها من صحيفة، ذكره أبو المعالي وابن عقيل، قال: كالقراءة في الصلاة لمن لا يحسن القراءة في المصحف، كذا قال، وسبق أن المذهب لا بأس بالقراءة في المصحف، قال جماعة: كالقراءة من الحفظ، فيتوجه هنا مثله؛ لأن الخطبة شرط كالقراءة، وذكر ابن عبد البر عن جماعة منهم: عثمان، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعبد الملك بن مروان، ومعن بن زائدة، وخالد القسري، أنهم خطبوا فأرتج عليهم، وعن بعضهم قال: هيبة الزلل تورث حصرا، وهيبة العافية تورث جبنا.
وخطب عبد الله بن عامر في يوم أضحى فأرتج عليه، فقال: لا أجمع عليكم لؤما وعيا، من أخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي، وأرتج على معن بن زائدة فقال: وضرب برجله المنبر: فتى حروب لا فتى منابر".
فإذا كان في الرد على الخطيب مصلحة تصحيح خطأ وقع فيه فإنه قد يستتبع مفسدة تلجلجه واضطرابه وتشتت أفكاره بسبب الرد عليه، وقد تؤدي حساسية الموقف إلى أن يفهم الخطيب الأمر على غير وجهه فتأخذه العزة بالإثم، فيضطرب الناس بين الراد والمردود عليه كما هو مشاهد في بعض الأحيان.
ومن المقرر شرعا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، هذا مع أن في الإمكان الجمع بين جلب المصلحة ودرء المفسدة بإتمام استماع الخطبة، ثم تنبيه الخطيب بعد الصلاة على الخطأ في أدب وهدوء نابعين من إرادة الخير وصدق النصيحة والإخلاص في القصد.
وبناء على ذلك فليس لمستمع خطبة الجمعة أن يعجل على الخطيب بالرد أو الفتح عليه، إلا إذا طلب الفتح بلسان حاله أو مقاله، أو وصل خطؤه إلى نحو خلط آية رحمة بآية عذاب أو إدخال أهل الجنة النار وأهل النار الجنة، بشرط أن يعلم من حال الخطيب أنه لا يتأثر ولا يتلجلج بالرد عليه، فإن جهل ذلك أو علم خلافه فعلى المستمع السكوت مع الالتزام بتنبيه الخطيب إلى ذلك بعد الصلاة حتى ينبه الحاضرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم
المبادئ:-
1- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإنصات للخطيب ممن حضر الجمعة واجب وأن الكلام محرم فيها، بينما ذهب الشافعية في المعتمد عندهم إلى أنه سنة.
2- ليس لمستمع خطبة الجمعة أن يعجل على الخطيب بالفتح عليه، إلا إذا طلب الفتح، ما دام لم يخلط آية رحمة بآية عذاب أو يغير تغييرا يقتضي كفرا، بشرط أن يعلم من حال الخطيب أنه لا يتأثر ولا يتلجلج بالرد عليه، فإن جهل ذلك أو علم خلافه فعلى المستمع السكوت مع الالتزام بتنبيهه بعد الصلاة حتى ينبه الحاضرين.
دار الإفتاء المصرية
رقم الفتوى: 630-5 لسنة 2008 تاريخ النشر في الموقع : 15/12/2017