الزكاة في القراطيس المالية
بعد إهدائكم عظيم تحيتي واحترامي، جزاكم الله عنا جزاء موفورًا، وجعل سعيكم سعيًا مشكورًا؛ على فتياكم في حكم القراطيس المالية بوجوب الزكاة فيها وهي التي نعتمد عليها ونتمسك بها، غير أني أرجو من فضيلة سيدي الجواب عما سألت عنه، وهو: من أي طريق عدت هذه القراطيس من النقود الذهبية؟ واستمهلت حتى أرفعه إلى حضرة سيدي، فوضحوه لي أشكركم. أرجو أيضًا سيدي أن تنظروا إلى أقوال القائلين في هذه القراطيس؛ منهم من قال: إنها لا تجب فيها الزكاة إلا زكاة التجارة، وإنها كفلوس النحاس في عدم وجوب زكاة العين فيها، اهـ. ومنهم من قال: إنها في حكم السندات تجب فيها الزكاة على قدر الدراهم التي بها من فضة أو ذهب، اهـ. فهل هذان القولان لهما وجه صحيح أم لا؟ تفضلوا سيدي بزيادة الإيضاح في هذه المسألة، حتى لا أعيد ذكرها بعد. ولكم من الله جزيل الأجر، ومني جميل الحمد والشكر.
إن هذه القراطيس لا يفرق بينها وبين نقد الذهب أحد من الماليين، كما هو معروف للمتعاملين بها، وهناك أوراق أخرى تسمى سندات مالية، تؤخذ في مقابلة حصة معينة بالسهام من شركة مالية، وهي أشبه بعروض التجارة؛ لأن ثمنها يزيد في السوق وينقص، وتباع كذلك وتشترى، ولكنها لا قيمة لها في ذاتها. وقد يفتي بعض الفقهاء في المسائل المالية المستحدثة في هذا الزمن، وهو على غير بينة من أنواعها وعرف الناس فيها، ومن كان عارفًا منهم بذلك يقيس عرف الحادث على ما يراه أشبه به في عرف سابق مما تكلم عنه الفقهاء، فبعضهم يرجح في ذلك جانب المعنى أو المقصد، ومنهم من يرجح جانب اللفظ أو الصورة فمن قال: إن القراطيس المالية التي تدعى «بنك نوت» ويطلق عليها بعض العرب لفظ «الأنواط» هي من عروض التجارة، وجعل التعامل بها كبيع العرض بمثله أو بالنقد، فقد بالغ في الوقوف عند ظاهر الصورة، فالعروض قيمتها ذاتية وهذه لا قيمة لها في ذاتها، ومن قال: إنها في حكم السندات والسفاتج راعى الصورة أيضًا من جهة والمعنى من أخرى، ووجه قوله: إنها أوراق تؤخذ في مقابلة نقد، ويسترجع مثل ذلك النقد بإعادتها، وغفل عن الفرق الكبير بينها وبين السندات بالمعنى الفقهي، وهو أن السند يكون بدين على شخص معين، وهذه القراطيس تروج في الأسواق المالية، فيشترى بها من كل أحد كالنقدين بلا فرق. هذان القولان يتفقان مع قولنا في غايته من حيث الزكاة، إلا عند من يقول: إن الدين لا زكاة فيه قبل قبضه، ويترتب على الخلاف من المسائل المهمة أن جعل القراطيس المالية كالنقدين، يقتضي وقوع الربا فيها وهو ما نجزم به، ومن قال: إنها عروض تجارة منع الربا فيها، وحينئذ يسهل على كل أحد أن يأكل الربا أضعافًا مضاعفة بهذه الأوراق، التي لا فرق بينها وبين الذهب عند أحد من الماليين وكذلك القول بأنها في حكم السندات، قد يكون موصلًا لأكل الربا ولمنع الزكاة، ولا حاجة إلى تفصيل، فمن نظر إلى حقيقة المسألة في الواقع واحتاط لدينه، أخذ بما قلناه، والسلام[1].
[1] المنار ج12 (1910) ص 909-911.
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
رقم الفتوى: 306 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017