استقبال القبلة عينها أو جهتها، والفتوى بالقول المرجوح
أفيدونا يا مولانا وسيدنا بيانًا شافيًا: في قول الإمام الغزالي في إحيائه، وقول الأذرعي باعتماد الاكتفاء في استقبال القبلة في الصلاة بجهتها في البعد، مستدلًا بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والقياس، هل يجوز للشخص أن يعمل ويبني المسجد عملًا به أو لا؟ فإن قلتم بالجواز، فما قولكم في قولهم: لا يجوز الإفتاء إلا بالقول الراجح؟ وإن قلتم لا يجوز لذلك، ويفهم منه أنه لا يجوز الإفتاء بالقول المرجوح كما لا يخفى على المشمرين في تحصيل العلم، وعدم جواز الإفتاء به هل هو على الإطلاق أو مقيد بما إذا لم يختره جماعة ممن يعتمد في كلامه ونقله، وقد أخبرني من به ثقة بأن هذا القول قد اختاره جماعة من الفقهاء. وما ذكره الفقهاء من أنه يجوز العمل بالقول الضعيف ما لم يشتد ضعفه، وأنه لا يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف، إذا لم يكن فيه مقوى من طرق متعددة يؤيد ذلك التقييد. وفي فوائد المكية: يجوز القضاء والإفتاء بالقول المرجوح لحاجة أو مصلحة عامة، وفيها أيضًا أن الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر وغيره، أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد التشهي سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه ما لم يلزم منه التلفيق. اهـ.
فعند الإمام مالك وأحمد وأتباعهما رضي الله عنهم أنهم لا يبطلون الصلاة عند استقبال الجهة، وكذا هو قول عندنا معاشر الشافعية، فقد قال: الغزالي والأذرعي -رحمهما الله تعالى- بجواز ذلك، كما يؤخذ من شرح البهجة بزيادة، وصرح به في التنبيه. اهـ.
وفي الأصول قاعدة معتبرة؛ وهي أن المعلول يدور مع علته، وعلته هنا وجود المشقة من حيث الأبعد عن بيت الله العظيم، مع أن القاعدة: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، فإن كان المصلي يشترط في استقبال عين القبلة، وكذلك المسجد يشترط مبناه أن يسامتها بجميع مركوزه، وهما في مسافة البعد كأرض الجاوي والهندي وغيرهما من سائر المملكة، فما تقول؟ فإن قلتم: يشترط على كل واحد منهما أن يحتاط مع بيت الإبرة المعروف ليعلم عينها، فماذا يستحق الذي أفتى من الجم الغفير باعتماد الاكتفاء بالجهة؛ لأنه فهم منها أنه صادق بمحاذاة عين القبلة أولًا، كما يؤخذ من الغاية التي ذكرها العلامة البيجرمي على فتح الوهاب اهـ. فمنوا بالإعانة، فلكم الفضل الظاهر والشكر الباهر، ودام فضلكم، وعلا قدركم، ولا زلتم مأجورين بجاه جدكم الأمين؛ سيدي.
قد اضطرب كلام أصحابنا الشافعية في مسألة القبلة، وما كان ينبغي لهم ذلك، فالحق واضح فيها، وكلام الشافعي نفسه صريح جدًّا.
من كان في الحرم يرى الكعبة يستقبلها قطعًا، ولا تصح صلاته إذا خرج عن محاذاتها، ومن كان بعيدًا عنها لا يراها، فإنه يستقبل الجهة التي هي فيها ويتعرفها بالاجتهاد، فمن علم أن الكعبة في هذه الجهة لم يكن له أن يتحول عنها، فإن كان عنده من وسائل الاجتهاد ما يعلم به أن البيت يحاذي خطًّا معينًا لم يكن له أن يتعداه، وإلا جاز له التيامن والتياسر في الجهة، كما يؤخذ من حديث الصحيحين: «شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» وما يؤيده. والعمدة أن يعتقد أنه متوجه تلقاء البيت بما عنده من أسباب الاجتهاد، لا يكلف غير هذا لأن غير هذا لا يستطاع ولا يدخل في الوسع.
فسّر الشافعي في رسالته شطر المسجد الحرام بتلقائه، ثم قال ما نصه: فالعلم يحيط أن من توجه تلقاء المسجد الحرام ممن نأت داره عنه على صواب بالاجتهاد للتوجه إلى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كلف العباد التوجه إليه وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصد المسجد الحرام أو أخطأ، وقد يرى دلائل يعرفها، فيتوجه بقدر ما يعرف، ويعرف غيره دلائل، فيتوجه بقدر ما يعرف وإن اختلف توجههما. اهـ.
وتلقاء الشيء تجاهه ونحوه كما ذكر في مادة (وجه) من لسان العرب. والتجاه الجهة التي تستقبلها بوجهك. ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ أي سار في الجهة الموصلة إليها ونحا نحوها.
وقال كما رواه عنه المزني في مختصره ما نصه: «ولا يجوز لأحد صلاة فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة، إلا متوجهًا إلى البيت الحرام ما كان يقدر على رؤيته إلا في حالتين، وذكر صلاة النافلة على الراحلة، وصلاة شدة الخوف رجالًا أو ركبانًا، ثم قال: فلا يصلي في غير الحالتين إلا إلى البيت إن كان معاينًا، فبالصواب وإن كان مغيبًا، فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة» اهـ. وكلامه في كتاب الأم على طوله لا يخرج عن هذا المعنى الذي اختصره المزني عنه، وقد صرح فيه بلفظ الجهة تصريحًا.
وذكر الشيرازي في التنبيه قولين في البعيد، لم يرجح واحدًا منهما على الآخر، فقال: «والفرض في القبلة إصابة العين فمن قرب منها لزمه ذلك بيقين، ومن بعد منها لزمه الظن في أحد القولين، وفي القول الآخر لمن بعد الجهة» اهـ.
أقول: لم أرَ في كلام الشافعي قولين في المسألة، وعندي أن ما صرّحوا فيه عنه بلفظ الجهة، وما لم يصرحوا فيه به واحد، والمراد أن يعرف سمت الكعبة بالاجتهاد، فمتى عرفها واستقبلها كان معتقدًا أنه متوجه تلقاء الكعبة في الجملة، وأنه مول وجهه شطرها لأن الذي يعرف جمهور المكلفين بالاجتهاد في حالة البعد هو الجهة، وكلما بعد الإنسان عن الشيء الذي يستقبله تنفرج المسافة التي بينه وبينه وتتسع.
ولو كان في المسألة قولان مختلفان لكان الفرق بينهما في العمل: أن من علم أن الكعبة في جهة الشمال كان له على القول الثاني أن يتوجه في صلاته إلى القطب الشمالي، وأن ينحرف عنه يمينًا أو يسارًا، وإن علم بالدلائل أنه لو خرج خط مستقيم منه إلى الكعبة لأصابها في حال استقباله، ولو خرج من حيث توجه منحرفًا عنه لم يصبها. وهذا هو الذي يترتب على عبارة التنبيه دون عبارة مختصر المزني.
ولذلك اضطربت أقوال المتأخرين من الشافعية والحكم واضح كما قلنا، فإن جماهير المكلفين لا يعرفون في حالة البعد بالاجتهاد إلا الجهة التي فيها الكعبة، وذلك كاف عند الشافعي، ولا يفهم من كلامه غيره، وهو لا ينافي أن الواجب على من كان عنده علم خاص بتحديد نقطة معينة من الجهة أن يعمل بعلمه، ولا يجوز له التيامن والتياسر إذا اعتقد أنه يخرج به عن محاذاة الكعبة، وهذا التفصيل يؤخذ من تصريح الشافعي بأن على كل مجتهد في القبلة أن يتوجه بقدر ما يعرف، ولا حرج في هذا ولا مشقة على أحد.
فعلم من هذا أن المعتمد أن للشافعي قولًا واحدًا في المسألة، وهو ظاهر الكتاب والسنة ومقتضى القياس، والذي عليه عمل الناس، وتلك الفلسفة التي اضطرب فيها المتأخرون إنما أخذها بعضهم من عبارة بعض، ولا يحتاج من يقول بالجهة في موافقة الشافعي رحمه الله تعالى إلى الإفتاء بالقول المرجوح.
فالعمل الذي يوافق مذهب الشافعي هو أن يجتهد المصلي في تعرف جهة الكعبة بالشمس والكواكب والرياح والجبال ويعمل باجتهاده، ومن كان على علم بتقويم البلدان (الجغرافية)، وكان معه بيت الإبرة، فإن علمه بسمت القبلة يكون أقوى مما يصل إليه المجتهد بالعلامات التي ذكروها، فيجب عليه بقدر ما يعرف. ويعتمد في بناء المسجد علم أوسع أهل البلد علمًا بذلك.
وأما الفتوى بالقول المرجوح فقد قيل ما قيل مما عرفه السائل، والحق أن العالم المجتهد لا يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان: أحدهما راجح والآخر مرجوح، وهو يجيز العمل بهما، ولكنه قد يقول القول فيظهر له خطؤه، فيرجع عنه بقول آخر فلا يبقى الأول قولًا له، وقد يتردد في المسألة فلا يكون له فيها قول، وإن نقل عنه قولان مختلفان كان أحدهما مرجوعًا عنه أو مكذوبًا، فإن وجد المرجح وإلا تساقطا. فمن سئل عن قول عالم مجتهد في مسألة، وجب عليه أن يرجع إلى كتبه، وينظر قوله فيها ويجيب به، فإن لم يجد كتبه بحث عن ذلك في كتب أقدم أصحابه، وتحرى وميّز بين ما يعزونه إليه تصريحًا وما يطلقون القول فيه أو يذكرونه ترجيحًا أو استنباطًا، فإذا لم يظهر له نقل عنه يطمئن قلبه له فعليه أن يمسك عن الفتوى معزوة إليه، وكتب الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب مملوءة بالأقوال التي لم ينقل عن أئمة تلك المذاهب فيها شيء.
قال ابن القيم: قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم (أي الفقهاء المنتسبين إلى الأئمة) منصوصًا عن الأئمة، بل كثير منها يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير منه تخرج على فتاويهم، وكثير منه أفتوا به بلفظه أو بمعناه فلا يحل أن يقول: هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقينًا أنه قوله ومذهبه. اهـ.
وبناء على هذا تضاربت أقوال أهل المذهب الواحد واختلفت، واحتيج إلى الترجيح بينها، فالراجح والمرجوح إنما هما من كلام أولئك المنتسبين الذين لم يعرفوا قول الإمام قطعًا، ومن كان من أهل الترجيح أفتى بالراجح عنده، وليس لغيره أن يفتي.
وقد بيّنا في الفتوى السابقة أن الناس صاروا يفتون بأقوال الجاهلين الذين يتجرؤون على التأليف لما وقع فيه المسلمون من الفوضى في العلم والدين بترك الأدلة، ويجعلون أقوال هؤلاء من المذهب، ويقدمونها على ما يعرف من نصوص الكتاب والسنة، بإلصاقها بالأئمة، لادعاء أولئك الجاهلين أتباعهم وما هم لهم بمتبعين.
وما أفتى به الغزالي وأمثاله مخالفًا للمعروف من مذهب الشافعي، فإنما أفتوا بما ظهر لهم بالدليل أنه الحق لا بمذهب الشافعي، وقد كان بعضهم يلصق مثل هذه الفتاوى بالشافعي، لا على معنى أنها قوله وفتواه، بل عملًا ببعض أصوله كقولهم: قد صح الحديث بهذا، وهو يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقولهم: إن في هذا سعة، وهو يقول: إذا ضاق الأمر اتسع، والحق أن الاتباع الحقيقي للشافعي وغيره من الأئمة رضي الله عنهم إنما هو تقديم الكتاب والسنة على أقوالهم وأقوال جميع الناس، وقد عمل بهذا كثير من المنتسبين إلى الشافعي وغيره، كما بيناه مرارًا في مواضع من المنار، وإنما صار الناس يلتزمون تقليد الفقيه الواحد في كل ما يعزى إليه بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وما نسب كبراء الفقهاء المتقدمين إلى الأئمة إلا لجريهم على أصولهم وطريقتهم في استنباط الأحكام دون اتباع أقوالهم في الفروع.
ذكر هذا المعنى ابن الصلاح وأقره عليه النووي بقوله: هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله (أي المزني): «مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليده غيره» أي نهي الشافعي عن تقليده فيما ينقله من علمه في ذلك المختصر.
وجملة القول أن من سئل عن حكم الله ورسوله في مسألة بيّنها من كتاب الله وسنة رسوله إن علم، ومن سئل عن رأيه واعتقاده فيها بيّنه بدليله إن استبان له، ومن سئل عن قول إمام بيّنه من كتبه أو نقل صريح عنه يعتد به إن علمه، فإن أفتى بالدليل على أصله صرح بذلك، وإلا أمسك عن الفتوى، وقال: لا أدري والله أعلم.[1]
[1] المنار ج14 (1911) ص257-262.
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
رقم الفتوى: 376 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017