• قضاء الأستاذ الإمام باجتهاده

    إني ممن يجل الأستاذ الإمام جدًّا، ويود من كل قلبه أن لا يذكر اسمه إلا مقرونًا بما يليق به من التجلة.

    بَيْدَ أنّ كثيرًا ما أسمع مبغضيه يتشبثون بأنه كان يحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة الغَرَّاء فأضيق ذرعًا، حيث إني مع تيقني براءة الأستاذ من أن يقدم على شيء قبل أن يعرف حكم الله فيه لا أجد لدي جوابًا أقطع به ألسنة أولئك الشانئين.

    لهذا أرغب إليكم أن تنشروا جوابًا شافيًا على صفحات مناركم الأغر ذَوْدًا عن مقام الأستاذ، ورحمةً بهؤلاء الذين كلما رَأَوْا من عليم شيئًا يدِقّ سره على أفهامهم تسارعوا إلى الوقوع في عرضه، وإن كان من أساطينِ المِلِّةِ، ولي وطيد الأمل أن يكون ذلك بأول عدد يصدر.

    لا زلتم نبراسًا للمسترشدين، آمين.
     

    كان الأستاذ الإمام يحكم باجتهاده في جميع القضايا كما هو حكم الشرع في القاضي؛ إذِ الأصلُ فيه عند جميع الفقهاء أن يكون عالمًا أي مجتهدًا، وَأَجَازَ الحنفية تقليد الجاهل (أي: المقلد) القضاء للضرورة أو بقيد وجود مُفْتٍ مجتهد يُفْتِيه كما علل الحكم بعضهم بذلك (وليس لديّ شيء من كتبهم أرجع إليه الآن وأنا مسافر) وقد أشار إلى هذا صديقه الفاضل حسن باشا عاصم -رحمهما الله تعالى- إذ قال في تأبينه وقد ذكر سيرته في القضاء: إنه كان من القضاة الذين يطلق الإفرنج على آحادهم قاضي العدل والإنصاف؛ لأنهم لا يتقيدون بنصوص القوانين الحرفية.

    ولهذا لم يحكم بالرباط قط، وخالف القانون في مسائلَ كثيرةٍ تعذر عليه فيها التوفيق بين نصوصه وما أداه إليه اجتهاده ودينه، وكان في مثل هذه المسائل يَتَوَخَّى الصلح بين الخصيمين، فإن لم يمكن حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، وقد شكاه بعض من كان يكرهه من وجهاء الشرقية إلى مستشار الحقَّانية مبيّنًا بعض المسائل التي خالف فيها القانون، فسأله المستشار عن ذلك بينه وبينه من غير تحقيق رسمي، فقال له الأستاذ في بدء الجواب: هل القانون وُضع لأجل العدل، أم العدل وضع لأجل القانون؟ فقال المستشار: بل القانون وضع لأجل الاستعانة به على إقامة العدل.

    فقال الأستاذ: إن جميع القضايا التي ذكرها الواشي قد حكمت فيها بالعدل الذي يستقيم به أمر الناس، وفصل له ذلك بما أقنعه، ولم يكن يثق بمثل هذا من غيره.

    هذا ما علمته منه -رحمه الله تعالى- ومن العارفين بسيرته ويعرفه له كبار القضاة الأهليين المختبرين، ولا يضر سيرة الأستاذ الإمام طعن أمثال من ذكرتم، وقد طعن في الأئمة قبله من هم خير منهم، وقد روي عن أبي القاسم الجنيد شيخ الصوفية وإمامهم رحمه الله تعالى أنه قال: لا يبلغ الرجل مقام الصِّدِّيقِينَ حتى يشهد ألف صديق بأنه زنديق. [1]

    [1] المنار ج15 (1912) ص730-731. الأستاذ الإمام هو الشيخ محمد عبده.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 433 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة