• سماع المعازف

    ما جواب مجوّزي سماع الملاهي عن حديث تحريم سماع المعازف الذي في البخاري؟[1]

    قد شرحنا في الجزأين الأول والثاني في المجلد التاسع[2] هذه المسألة؛ فذكرنا أدلة مجوِّزي السماع وأدلة حاظريه، وأقوى أدلة الحاظرين حديث البخاري الذي أشار إليه السائل؛ إذ لم يصح في الباب سواه، بل قال ابن حزم: لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع.

    وبينا أجوبة المجوزين عن هذا الحديث: فمنها أنه منقطع الإسناد فيما بين البخاري.

    ومنها أن في إسناده صدقة بن خالد وقد قال فيه يحيى بن معين: إنه ليس بشيء، والإمام أحمد: إنه ليس بمستقيم.

    ومنها: أنه مضطرب المتن والسند بما بيناه هنالك.

    ومنها أن كلمة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود.

    ومنها: إن لفظة يستحلون ليست نصًّا في التحريم، فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي لها معنيين: أحدهما أن المعنى: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال والإكثار من ذلك.

    ومنها: أن لفظة المعازف مختلف في مدلولها والاختلاف يوجب الاحتمال المسقط للاستدلال.

    ومنها: أن المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث.

    ومنها: أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها.

    وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة؛ إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما.

    وإذا أراد السائل أن يقف على تفصيل هذه الوجوه والأجوبة عنها وملخص ما قاله المجوزون والمحرمون في المسألة فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار.

    والذي ظهر لي من مجموع ما ورد في هذا الباب ومن كلام العلماء المختلفين في المسألة: أن سماع الغناء وآلات اللهو ليست محرّمة لذاتها مطلقًا، ولكن الإكثار منها مكروه ولو لم تبعث على معصية، فإذا كانت مغرية بالفسق كما يقع كثيرًا حرمت لسدّ الذريعة.

    ولمّا كثر اللهو والفسق من المفتونين بالمعازف وصارت أغانيهم كلها غرامية خلافًا لِمَا كان عليه الناس في القرون الأولى وصارت بذلك من دواعي السكر والعشق المؤدي للفسق -أكثر علماء الدين من ذمها والتنفير منها والجزم بتحريمها- كما حرّموا إبداء المرأة لما ظهر من زينتها وكشف وجهها وكفيها خوف الفتنة، حتى منعوا النساء الصلاة في المساجد، وقالوا مثل ذلك في الأَمْرَدِ الجميل الصورة.

    وحديث البخاري -أي المسئول عنه- إخبار بالغيب عن حال هؤلاء الفساق، فلم يبعد عن الفهم من قال إنه في تقبيح حال هؤلاء الفسّاق في جملة أفعالهم، فرواية البخاري: «لَيَكونَنَّ من أُمَّتي أقوامٌ يستحِلُّون الحِرَ -الحر بالكسر الفرج والمراد الزنا، وفي لفظ الخز بمعجمتين. وهو نوع من الديباج وهذا من الاضطراب في متن الحديث[3]- والحَرير، والخمرَ والمعازِف» ورواية بعض السنن: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ» وفي لفظٍ: «تَرُوحُ عَليهم القِيانُ وَتَغْدُو بِالمَعَازِفِ» فالحديث مروي بالمعنى ولذلك اختلفت ألفاظه.

    ولا شك أن ما يؤخذ من تعدد ألفاظه يدل على استقباح النبي صلى الله عليه وسلم لمجموع فعل هؤلاء الفسّاق، ومنه عزف المغنيات لهم على شربهم وفسقهم، فهو مثل حديث «صِنْفَان مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْد: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، عَلى رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رواه أحمد ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.

    فأما الرجال الذين يضربون الناس بسياط كأذناب البقر فهم أعوان الحكام الذين ابتدعوا السياط التي تسمى الكرابيج وصاروا يعذبون الناس بها، وأما النساء الموصوفات بما ذكر فهن مشاهدات في زماننا، ولم يفهم المراد من وصفهن بما ذكر كثيرٌ من العلماء قبل وجودهن، وأنت ترى من وصفهن أنهن يضعن على رؤوسهن شيئًا مرتفعًا شبه سنام البخت من الإبل، وهذا بحد ذاته مباح بالإجماع، ولكنه مع سائر تلك النعوت يمثل حال طائفة من الفواسق الفواتن اللواتي يضللن كثيرًا من الناس.

    [1] المنار ج17 (1914) ص185-186.
    [2] أنظر أعلاه فتوى رقم 185.
    [3] المنار ج17 (1914) ص186 الحاشية.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 494 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة