• حديث: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا»

    ما رأي حضرتكم في حديث: «أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»؟

    الحديث الوارد في السؤال، وسببه أن نفرًا من الصحابة رضي الله عنهم مروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد الحي فسعوا له بكل ما علموا، فلم ينفعه، فسألوا أولئك النفر هل عندهم من شيء؟ فقال أحدهم: إنه يرقي، وطلب الجُعْل على الرقية؛ لأنهم لم يضيفوهم، فجعلوا له قطيعًا من الغنم فرقاه بفاتحة الكتاب، فشفي، فأعطوهم القطيع.

    فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقرّهم عليه وقال: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» روى البخاري هذا اللفظ للحديث المرفوع عن ابن عباس، وروى الجماعة إلا النسائي القصة من حديث أبي سعيد الخدري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ» أي الفاتحة ثم قال: «اقْتَسِمُوْا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» أي قاله تطييبًا لقلوبهم؛ لأنهم شكوا في جواز أكلها كما قيل.

    وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن دون التعبد بتلاوته، ومنع ذلك آخرون وأجابوا عن الحديثين بأجوبة أظهرها: أن ما وردت فيه أخص من المُدّعى.

    وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عما أعطي عليها: «خُذْهَا فَلَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقّ» رواه أحمد وأبو داود عن خارجة بن الصلت عن عمه، ورجاله رجال الصحيح إلا خارجة، وقد وثقه ابن حبان. وقال الحافظ في التقريب: مقبول من الثالثة.

    والرقية بالقرآن لا يقصد بها التعبد به لأجل الثواب والقربة، وإنما يقصد بها تقوية روحانية الراقي؛ لأجل أن تؤثر روحه وإرادته في نفس المُرْقى تأثيرًا يغلب أثر الألم، فلا يُقاس عليها التعبد به لأجل الثواب، ثم إهداء الثواب إلى من لم يقرأ لينتفع بعبادة غيره.

    فإن قيل: قد ثبت في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب في الصحيح أنهم «الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ».

    فالجواب أن الرقية ليست دواء يشفي من الألم أو المرض باطِّرادٍ، بل الغالب فيها تأثير الاعتقاد أو تأثير نفسٍ ذاتِ إرادةٍ قوية روحانية في نفس أخرى بحسب سنة الله في البشر، لذلك كانت تنافي التوكل الذي هو الأخذ بسنن الله الثابتة في الأسباب والمسببات الصحيحة وتفويض الأمر إلى الله وحده فيما لا يُعْرف له سبب صحيح.

    وقد فصّلنا هذه المسألة من قبل في المنار (ص390-393 من المجلد السابع) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لُدِغ مرة فغشي عليه فرقاه ناس فلما أفاق قال: «إِنَّ اللَّهَ شَفَانِي، وَلَيْسَ بِرُقْيَتِكُمْ» رواه البخاري في التاريخ وابن سعد والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم، وذلك أن النفس لا تؤثر إلا في نفس أضعف منها وروحه صلى الله عليه وسلم أقوى من جميع الأرواح، وهذا المدرك يؤيد القول ببطلان ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم سُحِر، وأثّر السحر فيه كما بيّنه الأستاذ الإمام، وسبقه إليه أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في كتابه أحكام القرآن.

    وفي ص[855] من ذلك المجلد (السابع)[1] سؤال عن أخذ الأجرة على القرآن استشكالًا على عدِّ الأستاذ الإمام إياه من أكل أموال الناس بالباطل ويعني به ما بيّناه في تفسير ([188]:[2]): ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] والاحتجاج عليه بحديث الرقية مع الجواب عنه[2].


    [1] ‏المنار ج7 (1904) ص855-856. أنظر أعلاه الفتوى رقم 127 ‏

    [2] المنار ج24 (1923) ص425-ص427. ‏

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 624 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة