رأي الشيخ محمد عبده في السبيرتو
هل قول إمامكم الأستاذ العلامة المفتي سابقًا في الديار المصرية، والمُصْلِح الكبير للراعي والرعية، الشيخ محمد عبده رحمه الله في (ج م ص340 التفسير) صحيح عندكم، مثبت خمرية السبيرتو وإسكاره أم لا؟ نرجو مراجعة كتب الطب الجديد.
إن ما أشار إليه السائل وهو ما نقلناه عن شخينا المذكور رحمه الله تعالى، نص صريح فيما قلناه من أن السبيرتو ليس بخمر ولا بشراب من الأشربة التي تعد الخمر نوعًا منها، وإنما هو مادة سامة إذا ركبت مع غيرها من المائعات على نسبة مخصوصة يكون ذلك المركب مسكرًا، وهذا نص ما نقلناه عنه من الدرس في الكلام على انتشار السكر في الفلاحين والخمور التي تباع لهم وللفقراء، قال: «وما هي بخمر جعلت للشرب، وإنما هي المادة المحرقة السامة التي تسمى السبيرتو يضاف إليها شيء من الماء والسكر أو غير ذلك مما يمكن من تناولها»، فإن قوله: «وما هي بخمر جعلت للشرب» عين ما نقوله، ولكن السائل المركب منها ومن الماء والسكر وغيره الذي يصير شرابًا مسكرًا يسمى خمرًا حقيقة أو مجازًا على الخلاف المشهور في ذلك، بخلاف المركب غير السائل أو ما لا يكون شرابًا كالأعطار والأدوية التي لا يمكن شربها، وإنما تستعمل في الجراحة، أو يؤخذ منها نقط معدودة في مائع آخر لا يصير بها مسكرًا ولا ذريعة للسكر -والدهن والطلاء والعطر- فكل ذلك لا يسمى خمرًا لغة ولا شرعًا، ولا في العرف العام ولا الخاص بالصيادلة والأطباء، وسائر الفنون والصناعات.
وقد وصف بعض الأطباء للأستاذ الإمام نفسه صبغة اليود علاجًا للرثية (الروماتزم)، فكان يأخذ بضع نقط منها في نصف كوب من الماء قبل الطعام، كما وقع لوالدتنا من بعده. وكان يعلم أن صبغة اليود تُحَلَّل بالسبيرتو فيدخلها قليل منه، لا تكون به شرابًا مسكرًا ولا ذريعة للسكر. وكان يتطيب بالأعطار الحديثة ولا سيما (الكولونيا) وأكثرها سبيرتو، بل أفتى بجواز اتخاذ الدواء الذي يدخل فيه نقط قليلة من الخمر نفسها، إذا لم يصر ذريعة للسكر، وقد نقلنا عنه في تفسير آية المائدة (ص89 ج7 تفسير- وص102 م18 منار) ما نصه: وقال شيخنا محمد عبده: يشترط في التدواي بالخمر أن لا يقصد المتداوي بها اللذة والنشوة ولا يتجاوز مقدار الطبيب. اهـ.
هذا وإنني قد فهمت من تعبيركم بكلمة إمامكم أنكم تظنون أن إطلاقنا هذا اللقب على الشيخ رحمه الله تعالى نريد به أننا نقلده فيما يستنبطه أو يرجِّحه، كما هو شأن سائر المقلدين مع شيوخهم، وليس كذلك. وإنما نعنى بإمامته أنه من العلماء المستقلين الذين يتحرون الحق ويأخذون بالدليل، وأنه إذا ظهر له الحق اتبعه وعمل به. وهكذا كان أئمة الأمصار، ونحن نتبعه ونتبعهم في ذلك ولا نأخذ بشيء من آرائهم وترجيحاتهم إلا إذا ظهر لنا أنها الصواب. وكنا نراجعه في بعض المسائل التي يقولها أو يكتبها إذا رأيناها خطأ، فكان إما أن يقنعنا بأنه مصيب، وإما أن يرجع إلى رأينا، وهذه صفات الأئمة المهديين.
ولولا ما كان عليه من الاستقلال في العلم والدوران مع الحق كيفها دار، لما وصل إلى تلك الدرجة العالية في دقة الفهم، وصحة الحكم، ولما اعترف له الجمهور الأعظم في بلاده وغيرها بهذه الإمامة، ولما رأينا كثيرًا من العلماء المتخرجين في الأزهر وغيره من المدارس الدينية وغير الدينية يتلقون عنه ويحضرون درسه مع الطلبة، وقد نال هذا العاجز قبل اتصاله به إجازة التدريس (أو العالمية) قولًا وكتابة من شيوخه في طرابلس الشام، كالشيخ حسين الجسر الشهير وشيخ الشيوخ محمود نشابه، ولكننا رأينا عنده ما لم نر عند غيره رحمهم الله أجمعين[1].
[1] المنار ج24 (1923) ص735- 736.
فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا
رقم الفتوى: 634 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017