• الزيّ والدين

    إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في اللباس [كالبرنيطة والبنطلون]، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛ فهل من دليل نقلي على ذلك؟ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام.

    وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرّون على لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها -على ما أعتقد- يقتضي أن يكون الإسلام بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في الدرجة القصوى كما لا يخفى على بصير، إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها.

    وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج (بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء، أو بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام، بل كانوا يكتفون بالشهادتين فيه، وورد في الحديث: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»، وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون: لا إله الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو الجواب ولكم الثواب.
     

    لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في المقالات التي نشرناها في الموضوع، والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس النصارى [البراطل أو البرانيط] للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة التي يعرفها الحوذي.

    قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس من لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضّل الكتابي الرومي أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو المرتدين.

    وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلًا في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه أو عملًا من أعماله، فلو قيل لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه فرجية واسعة الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل، لقالوا: إن هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة وما قاربها، ولا ينبغي لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق.

    أما حديث: «مَن تَشبَّه بقَومٍ فهو مِنهم» فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد المشاغبين في مسألة الزي، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإنه يلتحق بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم[1]، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر الذي اقتبسه:

    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم  ...   إن التشبّه بالكرام فلاح


    [1] المنار ج7 (1904) ص24.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 30 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات