• قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته

    سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة، المطبوع في مطبعة المنار الأغر على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت... الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في هذه المسألة موضوعة... إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره): رويناها (يعني القصة) من وجوه صحاح، فالمسؤول إيضاح الصواب.
     

    إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية، فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث «خلق الله التربة يوم السبت»؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية مخالفة للقرآن.

    من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه. وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.

    ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير العلماء عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا، والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا: «لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا»، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.

    لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه الإصابة، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (أي بالشفرة)، فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:

    أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع

    أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع

    يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع

    قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال (عبد الله بن رواحة): فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك حتى بدت نواجذه. وكأن السيوطي رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها. ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:

    شهدت بإذن الله أن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل

    وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل

    وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل إن عبد الله بن رواحة أنشده، الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:

    شهدت بأن وعد الله حق ... وإن النار مثوى الكافرينا

    وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا

    ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.

    أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز وجل القائل فيه: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ [الحاقة: 41]. وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان مرتدًّا. [1]

    [1] المنار ج14 (1911) ص104-106.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 359 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة