• حديث التفاوت في التكليف

    ضم أحد إخواننا مجلس جمع من الأكابر عدة بينهم عالم كبير، ودار البحث بينهم على حالة الإسلام، فذكر هذا العالم حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: «أنتم في زمن لو تركتم عشر معشار ما وجب عليكم لهلكتم، وسيأتي على أمتي زمن لو فعلوا عشر معشار ما وجب عليهم لنجوا». ولما كان هذا الحديث لا يقبله العقل لمناقضته للقرآن الكريم أخذ صاحبنا يبين للعالم استحالة قبول العقل له بالآيات القرآنية، ووافقه الحاضرون لقوة حجته، ولكن صاحب الحديث أصرّ عليه، ولما لحضرتكم من الأيادي البيضاء على المسلمين في مثل ذلك، جئناكم راجين فصل الخطاب في صحة هذا الحديث وعدمها.
     

    الحديث لم يروه أحد بهذا اللفظ مطلقًا، وحقًّا إنه هادم للدين هدمًا، ولكن روى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ بِعُشْرِ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا» وهو على كونه غير صحيح قد حملوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يمكن حمله على جميع التكاليف لما يستلزمه من التفاوت بين الأزمنة في التكليف، واللازم باطل بإجماع المسلمين وبعموم النصوص القطعية، وقالوا: إن السبب في ذلك أن الإسلام كان عزيزًا وكان الناس كلهم أعوانًا على الحق والخير فلا عذر للمقصر، وأما الزمان الأخير فيضعف فيه الإسلام ويقل التعاون على الخير، فيكون للمقصر بعض العذر لفقد التعاون وكثرة الموانع من الخير والإيذاء في الله. ويمكن حمله على ما يأمر به الحكام والسلاطين لأنه كان في العصر الأول حقًّا وخيرًا في الغالب، ولينظر الناظر بماذا يأمر حكامنا الآن. أما كون الحديث غير صحيح فنعني به أنه لا يكاد يرتقي عن المكذوب إلى الضعيف، وآفته نعيم بن حماد المحدث الكبير المكثر الذي غرّ كثيرًا من المحدثين بعلمه وسعة روايته حتى أخرج له البخاري في المتابعات دون الأصول، فهو لا يوثق بما انفرد به، ومنه هذا الحديث. صرح الترمذي راويه بأنه غريب لا يعرف إلا عن حماد. وقد عد ابن عدي في الكامل جملة مما انفرد به، ومنه ما صرحوا بوضعه. وفي الميزان عن العباس بن مصعب في تاريخه أن حمادًا وضع كتبًا في الرد على الحنفية وأخرى في الرد على الجهمية، وكان منهم أولًا. وقال أبو داود: كان عنده نحو عشرين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، فقيل له في قبول حديثه؛ فقال: قد كثر تفرده عن الأئمة فصار في حد من لا يحتج به، وقال في موضع آخر: إنه ضعيف، وقال الأزدي: كان نعيم يضع الحديث. ولا شك عندي في ذلك، ومن علامة وضع الحديث عدم انطباقه على الأصول الثابتة [1].

    [1] المنار ج7 (1904) ص418-419.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 75 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة