• حكم التفجيرات والأعمال الانتحارية

    يقول السائل: يتردد في هذه الآونة الكلام عن الجهاد، وأنه فريضة معطلة، ويروج لتبرير الأعمال الشنيعة تحت دعوى إحياء فرض الجهاد الإسلامي؛ كقتل السائحين الداخلين إلى بلاد المسلمين بتأشيرات دخول، والتفجيرات والأعمال الانتحارية ببلاد غير المسلمين، وذلك بحجة أن تأشيرة الدخول ليست بأمان، ومن ثم يجوزون قتل السياح الذين دخلوا بلاد الإسلام، كما يجوزون لمن دخل بلاد غير المسلمين أن يقوم بأعمال انتحارية.

    فهل فرض الجهاد معطل؟ وهل تعد تأشيرة الدخول أمانا يعصم الدماء والأموال؟ وما حكم هذه التفجيرات والأعمال الانتحارية؟

    أما الدعوى بأن الجهاد معطل فينبغي ابتداء أن نؤكد على أن الجهاد حق وفريضة محكمة لا يملك أحد تعطيله ولا منعه، ولكنه إذا تفلت من الضوابط الشرعية ولم تطبق فيه الأركان والشروط والقيود التي ذكرها علماء الشريعة خرج عن أن يكون جهادا مشروعا، فتارة يصير إفسادا في الأرض، وتارة يصير غدرا وخيانة، فليس كل قتال جهادا، ولا كل قتل في الحرب يكون مشروعا.

    وهذا يستلزم أن نفرق هنا بين مفهومين مهمين: "الجهاد" و"الإرجاف": فمصطلح "الجهاد في سبيل الله" هو مصطلح إسلامي نبيل له مفهومه الواسع في الإسلام، فهو يطلق على مجاهدة النفس والهوى والشيطان، ويطلق على قتال العدو الذي يراد به دفع العدوان وردع الطغيان، وهذا النوع من الجهاد له شروطه التي لا يصح إلا بها، من وجود الإمام المسلم الذي يستنفر المسلمين من رعيته للجهاد، ووجود راية إسلامية واضحة، وتوفر الشوكة والمنعة للمسلمين؛ فهو من فروض الكفايات التي يعود أمر تنظيمها إلى ولاة الأمور والساسة الذين ولاهم الله تعالى أمر البلاد والعباد وجعلهم أقدر من غيرهم على معرفة مآلات هذه القرارات المصيرية، حيث ينظرون في مدى الضرورة التي تدعو إليه من صد عدوان أو دفع طغيان، فيكون قرار الجهاد مدروسا من جميع جوانبه ومآلاته دراسة علمية وواقعية فيها الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد بلا جبن أو خور أو ضعف، وبلا سطحية أو غوغائية أو عاطفة خرقاء لا يحكمها خطام الحكمة أو زمام التعقل، وهم مثابون فيما يجتهدون فيه من ذلك على كل حال، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، وإن قصروا فعليهم الإثم، وليس لأحد أن يتورك عليهم في ذلك إلا بالنصيحة والمشورة إن كان من أهلها، فإن لم يكن من أهلها فليس له أن يتكلم فيما لا يحسن، ولا أن يبادر بالجهاد بنفسه وإلا عد ذلك افتئاتا على الإمام، وقد يكون ضرر خروجه أكثر من نفعه فيبوء بإثم ما يجره فعله من المفاسد.

    ولو كلف مجموع الناس بالخروج فرادى من غير استنفارهم من قبل ولي الأمر لتعطلت مصالح الخلق واضطربت معايشهم، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: 122].

    مع ما في هذا التصرف من التقحم في الهلكة، وإهمال العواقب والمآلات، والتسبب في تكالب الأمم على المسلمين، وإبادة خضرائهم، والولوج في الفتن العمياء والنزاعات المهلكة بين المسلمين والتي تفرزها قرارات القتال الفردية الهوجائية هذه، ومن المعلوم شرعا وعقلا وواقعا أن التشتت وانعدام الراية يفقد القتال نظامه من ناحية، ويذهب قيمه ونبله ويشوش على شرف غايته من ناحية أخرى.

    وقد نقل الإمام القرطبي في أحكام القرآن -5/ 259- عن الإمام سهل بن عبد الله التستري -رحمه الله تعالى- أنه قال: "أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد". اهـ.

    وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن -1/ 581 ط: دار الكتب العلمية-: "أمر الله سبحانه الناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير، فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلا بإذن الإمام; ليكون متحسسا إليهم وعضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه". اهـ.

    وجاء في مواهب الجليل للإمام الحطاب المالكي -3/ 349 ط: دار الفكر-: "قال ابن عرفة الشيخ عن الموازية: أيغزى بغير إذن الإمام؟ قال: أما الجيش والجمع فلا إلا بإذن الإمام وتولية وال عليهم". اهـ.

    وفيه أيضا -3/ 350- عن سيدي أحمد زروق من فقهاء المالكية الكبار ومن الصالحين الكمل أنه قال: "التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سلم الفتنة، وقلما اشتغل به أحد فأنجح". اهـ.

    وقال إمام الحرمين في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" -155، 156-: "ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها الأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ولا يغفلوا عنه؛ كتجهيز الموتى ودفنهم والصلاة عليهم، وأما الجهاد فموكول إلى الإمام". اهـ.

    وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني -9/ 166 ط: دار إحياء التراث العربي-: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك". اهـ.

    ومن جهة أخرى فإن مصطلح الجهاد في الشرع لا يعني القتال فقط، بل إن من الجهاد إعداد الجيوش وحماية الحدود وتأمين الثغور، فهذه من فرض الكفاية في الجهاد، فإذا تم ذلك حسب الاستطاعة فلا يقال حينئذ: إن الجهاد قد عطل، وقد نص السادة الشافعية على أنه: "يحصل فرض الكفاية يعني في الجهاد بأن يشحن الإمام الثغور بمكافئين للكفار مع إحكام الحصون والخنادق وتقليد الأمراء، أو بأن يدخل الإمام ونائبه دار الكفر بالجيوش لقتالهم". مغني المحتاج 4/ 210 ط: الحلبي.

    كما أن إعداد "قوة الردع" أهم من ممارسة القتال نفسه؛ لأن فيها حقنا للدماء، وقد أشار القرآن الكريم إليها في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60].

    بل أكد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- على أن تأمين الثغور وحدود الإسلام أولى من غزو بلاد الكفار، وأن غزوهم آنذاك مشروط بعدم التغرير بالمسلمين، وأن يرجو الظفر، ومنه يعلم أن مثل هذه العمليات الانتحارية التي تتسبب في مهلكة المسلمين أكثر مما أصابت من غير المسلمين غير جائزة بحال، لما تتسبب فيه من الهلاك للمسلمين وجر الوبال عليهم دون ظفر بعدو، فقال -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 91- 92-: "والواجب أن يكون أول ما يبدأ به سد أطراف المسلمين بالرجال وإن قدر على الحصون والخنادق وكل أمر دفع العدو، وقبل انتياب العدو في ديارهم حتى لا يبقى للمسلمين طرف إلا وفيه من يقوم بحرب من يليه من المشركين... فإذا أحكم هذا في المسلمين وجب عليه أن يدخل المسلمين بلاد المشركين في الأوقات التي لا يغرر بالمسلمين فيها، ويرجو أن ينال الظفر من العدو". اهـ.

    ثم يؤكد الإمام الشافعي على أنه لا يجوز حمل المسلمين في الجهاد على ما فيه مهلكتهم فيقول في "الأم" -4/ 91، 92-: "ولا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعا في بدنه حسن الأناة عاقلا للحرب بصيرا بها غير عجل ولا نزق، وأن يقدم إليه وإلى من ولاه أن لا يحمل المسلمين على مهلكة بحال، ولا يأمرهم بنقب حصن يخاف أن يشدخوا تحته، ولا دخول مطمورة يخاف أن يقتلوا ولا يدفعوا عن أنفسهم فيها، ولا غير ذلك من أسباب المهالك، فإن فعل ذلك الإمام فقد أساء". اهـ.

    وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" -1/ 393-: "وهو من فروض الكفايات دون الأعيان، فمن قام به سقط به الفرض عن الباقين، ووجه القيام به أن تحرس الثغور وتعمر وتحفظ بالمنعة والعدد". اهـ.

    وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص126- في حكمه -أي الجهاد-: "وهو فرض كفاية عند الجمهور... تفريع: إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور سقط فرض الجهاد وبقي نافلة". اهـ.

    ومن خلال هذه النصوص يعلم أن فرض الكفاية في الجهاد بتأمين الثغور حاصل على درجات متفاوتة في كثير من البلدان الإسلامية بصفة عامة، وليست فريضة الجهاد من هذا الجانب معطلة كما يدعي هؤلاء.

    والجهاد يكون فرض عين في البلاد التي يعتدى فيها على حرمات المسلمين أو مقدساتهم من قبل الغزاة البغاة، ويتعين على أهلها الدفاع عنها، ولا يلزم الجهاد حينئذ كل أحد من المسلمين، وإنما يصير على من كان خارجها فرض كفاية كما نص عليه الفقهاء.

    قال العلامة الشربيني الخطيب في الإقناع من كتب الشافعية -4/ 254، 255 مع حاشية البجيرمي، ط: دار الفكر-: "والحال الثاني من حالي الكفار أن يدخلوا بلدة لنا مثلا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم.

    ويكون الجهاد حينئذ فرض عين... ومن هو دون مسافة القصر من البلدة التي دخلها الكفار حكمه كأهلها وإن كان في أهلها كفاية; لأنه كالحاضر معهم.

    ويلزم الذي على مسافة القصر المضي إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية؛ دفعا لهم وإنقاذا من الهلكة، فيصير فرض عين في حق من قرب وفرض كفاية في حق من بعد". اهـ. بتصرف.

    فعلم من هذا أن الجهاد في حق من هو خارج الأرض المعتدى عليها تابع لمدى حاجة من هم داخلها من أهلها، وأنه يلحق بهذه الأرض في وجوب الدفع عنها ما كان داخلا في مسافة القصر من جميع أطرافها، فإن لم يف ذلك أضيف إلى هذه المسافة مثلها وهكذا.

    ولكن تنفيذ الحكم الشرعي بهذه الطريقة أيضا لا بد فيه من سلوك الطرق الصحيحة التي هي من اختصاص الجهات المضطلعة بواقع الأمور حربيا وسياسيا وواقعيا والمشرفة على تقدير الحاجة من عدمها، والتي تراعي حساب المآلات والنتائج والمصالح والمفاسد المتعلق بالاعتبارات الإقليمية والمعاهدات الدولية ومعرفة موازين القوى العالمية، وكل ذلك يحتاج إلى موازنات خاصة ودراسات حربية وسياسية دقيقة يتم فيها مراعاة استنفاد الخيار السلمي الذي أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[٦١]﴾ [الأنفال: 61].

    والحفاظ على أمن الدول الإسلامية ورعاياها ومصالحها من جهة أخرى، وقدرتها على المواجهة وتحمل خيار الحرب من جهة ثالثة، وليتم الأمر بشكل رسمي محدد المعالم يؤمن فيه على مريدي الجهاد من أن يقعوا فريسة لجهات مشبوهة تستغل عواطفهم وتوظف حماسهم لخدمة أهداف خارجية باسم الجهاد من جهة رابعة، وكلها أمور واعتبارات متعلقة بفقه الأمة ولا يستطيع الاضطلاع بها إلا الأنظمة والجيوش والكيانات الضخمة، ولا علاقة لها بفقه الأفراد ولا مجال لهم في حسم مصائر الأمم فيها، والمسؤول عن ذلك هم ولاة أمور المسلمين، وحتى لو قصروا فيه فإن تقصيرهم لا يجعل فريضة الجهاد معطلة مع وجود تأمين الثغور وحماية الحدود، ولا يبرر بحال من الأحوال الخروج عن النظام العام لجماعة المسلمين؛ لتصبح قرارات الحرب فردية هوجائية يذهب فيها الأخضر واليابس، فضلا عن مثل هذه العمليات التفجيرية التي لا علاقة لها بجهاد إسلامي ولا بحرب شريفة.

    ثم إن الجهاد بمعنى القتال ليس مقصودا في نفسه، ولا قتل غير المسلمين مقصودا في نفسه على خلاف ما تصوره تيارات البغي والإرجاف التي جعلت الأصل في غير المسلمين أنهم مباحو الدم، بينما بين علماء الشريعة أنه متى قام المسلمون بفرض الكفاية من سد الثغور وحماية حدود بلاد الإسلام، فإن الدعوة تكفي عن الجهاد بغزو بلاد غير المسلمين، بل متى ما صلحت الدعوة لم يلجأ إلى الجهاد، وأن قتل الكفار ليس بمقصود، والجهاد وسيلة وليس مقصودا بالذات، فقالوا: ووجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد. انظر: مغني المحتاج 4/ 210.

    أما ما يروج له هؤلاء فهو "الإرجاف" وليس الجهاد، وهو مصطلح قرآني ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا[٦٠] مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[٦١] سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[٦٢]﴾ [الأحزاب: 60 - 62].

    وهي كلمة لها مفهومها السيئ الذي يعني إثارة الفتن والاضطرابات والقلاقل باستحلال الدماء والأموال بين أبناء المجتمع الواحد تحت دعاوى مختلفة منها: التكفير للحاكم أو للدولة أو لطوائف معينة من الناس، ومنها استحلال دماء المسلمين تحت دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو استحلال دماء غير المسلمين في بلادهم أو أولئك الذين دخلوا البلاد الإسلامية بدعوى أن دولهم تحارب الإسلام.

    إلى آخر ذلك من دعاوى الإرجاف التي يسولها الشيطان للمرجفين، والتي كان بعضها سببا لظهور الخوارج في زمن الصحابة ومن جاء بعدهم، وشبها يبررون بها إفسادهم في الأرض وسفكهم للدماء المحرمة.

    وحينئذ فإن الحكم يختلف تبعا لاختلاف المفهوم، فما تفعله هذه التيارات في بلاد المسلمين من قتل للسائحين، أو في بلاد غير المسلمين من عمليات انتحارية، أو غير ذلك من أفعال التخريب التي أفرزتها مناهج الإرجاف الضالة، فهذا كله حرام، وهو نوع من البغي الذي جاء الشرع بصده ودفعه بل وقتال أصحابه إن لم يرتدعوا عن إيذائهم للمسلمين ولغير المسلمين مواطنين ومستأمنين، وتسميته جهادا ما هو إلا تدليس وتلبيس حتى ينطلي هذا الفساد والإرجاف على ضعاف العقول، وهذا بغي في الأرض بغير الحق يعد أصحابه بغاة يقاتلون إن كانت لهم منعة وشوكة حتى يرجعوا عن بغيهم وإرجافهم.

    ويتضح هذا ببيان حكم المستأمنين وتوصيف تأشيرة الدخول وآثارها شرعا، فالسائحون في عصرنا الحاضر هم مسافرون إلينا من الرجال والنساء دخلوا بلادنا بأمان، وحكمهم في ذلك حكم المستأمنين، والمستأمن في اللغة: هو من أعطي الأمان، وفي اصطلاح الفقهاء: من يدخل إقليم غيره بأمان مسلما كان أم حربيا. اهـ. الدر المختار للإمام الحصكفي الحنفي مع حاشية ابن عابدين عليه 4/ 166.

    والأمان عهد شرعي وعقد يوجب لمن ثبت له حرمة نفسه وماله، وقد أمر الشرع بالوفاء بالعهود، وجاءت الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الوفاء بها عامة في كل عهد.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -[4]/ [106]، ط: دار الشعب-: "جماع الوفاء بالنذر وبالعهد كان بيمين أو غيرها في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. وفي قوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7].  وقد ذكر الله عز وجل الوفاء بالعقود بالأيمان في غير آية من كتابه. وظاهره عام على كل عقد". اهـ.

    فحكم المستأمن: هو ثبوت الأمان له ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه، شأنه في ذلك كشأن أهل البلد ومواطنيها، فإذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره للمستأمن وجب على المسلمين جميعا الوفاء به، فلا يجوز قتله ولا أسره، ولا أخذ شيء من ماله، ولا التعرض له، ولا أذيته.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 107-: "وإذا كان ذلك، يعني إذا وادع الإمام قوما أو أخذ منهم الجزية فليس لأحد من المسلمين أن يتناول لهم مالا ودما". اهـ.

    وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" -7/ 474-: "وإذا انعقد الأمان، صار المؤمن معصوما عن القتل والسبي". اهـ.

    والأمان ينعقد شرعا بكل ما يفيده لفظا وكتابة وإشارة وعرفا، وبكل ما يفيد الغرض صريحا أو كناية، وبأي لغة كانت، بل إن الأمان يعطى شرعا لمن ظن أنه أمن ولو على جهة الخطأ ولا يجوز لنا الغدر به، حيث صرح علماء الشريعة بأن مجرد اعتبار غير المسلم لأمر ما أنه أمان له، فإن ذلك يوجب عصمة دمه وماله.

    قال الإمام ابن الحاجب في "جامع الأمهات" من كتب السادة المالكية -246، 247، ط1 دار اليمامة-: "ولو ظن الحربي الأمان فجاء، أو نهى الإمام الناس فعصوا أو نسوا أو جهلوا، أمضي أو رد إلى مأمنه". اهـ.

    وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص134 ط: دار الفكر-: "ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يرده فلا يقتل، وإذا شرط الأمان في أهله وماله لزم الوفاء به.

    ومن دخل سفارة لم يفتقر إلى أمان بل ذلك القصد يؤمنه". اهـ.

    وقال الشيخ الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" من كتب السادة الشافعية -6/ 52 ط: الحلبي-: "... "ويصح" إيجاب الأمان "بكل لفظ يفيد مقصوده" صريحا؛ كأجرتك وأمنتك أو لا تفزع كأنت على ما تحب، أو كن كيف شئت "و" يصح "بكتابة"...". اهـ.

    بل نص الفقهاء على أن مجرد الإذن لغير المسلم بالدخول إلى بلاد المسلمين هو إعطاء للأمان لا يجوز نقضه: يقول الحافظ أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار" -5/ 35-: "كل ما اعتبره الحربي أمانا من كلام أو إشارة أو إذن فهو أمان يجب على جميع المسلمين الوفاء به". اهـ.

    وفي عصرنا الحاضر نظم دخول البلاد رسميا في صورة تأشيرة الدخول أو المرور، وهي تقتضي بذاتها للحاصل عليها في المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية الإذن بدخول البلاد والأمن على النفس والمال، بل إن مجرد الإذن بالدخول مفيد للأمان، وقد صح أن الأمان ينعقد بأي شيء يفيده، فثبت بذلك أن تأشيرة الدخول أمان، ويصبح ما تقتضيه هذه التأشيرة من العهود التي يجب الوفاء بها، والعهد ينعقد بكل ما يدل عليه، فإذا دخل بها غير المسلم بلاد المسلمين لأي غرض من الأغراض سياحة أو غيرها فهو مستأمن لا يجوز التعرض له في نفسه ولا في ماله، كيف وقد أفاد كلام العلماء أن اعتقاد الأمان يوجبه لصاحبه ولو كان حربيا، ولو على سبيل الخطأ.

    وعقد الأمان العام يعقده ولاة الأمور، أما عقد الأمان لعدد محصور كوفد سياحي أو تجاري مثلا فيعقده كل مسلم حر عاقل بالغ بالاتفاق، وليس مقصورا على ولي الأمر وحده، بل متى عقد مسلم الأمان لغير مسلم وجب على جميع المسلمين الوفاء بذلك ولا يجوز الغدر بأهله، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا». متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

    فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذمة المسلمين» أي: عهدهم، وقوله: «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتهم أقلهم شأنا أو عددا؛ فإذا أعطى أحد المسلمين -فضلا عن ولي أمرهم- عهدا لم يكن لأحد نقضه، وقوله: «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله: «صرف ولا عدل» أي: لا يقبل الله تعالى منه شيئا من عمله.

    قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" -4/ 86، ط: السلفية-: "والمعنى: أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة". اهـ.

    وعلى ذلك تواردت نصوص الأئمة الفقهاء: قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 196-: "فإذا أمن مسلم بالغ حر أو عبد يقاتل أو لا يقاتل أو امرأة فالأمان جائز.

    وإذا أشار إليهم المسلم بشيء يرونه أمانا فقال: أمنتهم بالإشارة فهو أمان". اهـ.

    وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة على مذهب عالم المدينة" -1/ 408، ط: دار الكتب العلمية-: "أمان الحر المسلم العاقل البالغ لازم لا يجوز نقضه ذكرا كان أو أنثى". اهـ.

    وقال الإمام ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" -ص134، ط: دار الفكر-: "التأمين ثلاثة أضرب: على العموم وينفرد بعقدهما السلطان، وهما الصلح والذمة، والثالث: خاص بكافر واحد أو بعدد محصور ويصح من كل مسلم مميز، فيدخل في ذلك المرأة عند الأربعة -أي المذاهب الأربعة- والعبد عند الثلاثة يعني ما عدا المذهب الحنبلي". اهـ.

    وقال الإمام ابن الحاجب المالكي في "جامع الأمهات" -246، 247-: "ويجوز لأمير الجيش إعطاء الأمان مطلقا ومقيدا.

    وكذلك كل ذكر حر مسلم عاقل بالغ أو مجاز، يعني أجازه الإمام.

    وأمان المرأة والعبد والصبي إن عقل الأمان معتبر على الأشهر". اهـ.

    وهؤلاء السائحون من غير المسلمين قد أمنهم ولي الأمر بالتأشيرة، والذين تعاقدوا مع هذه الوفود السياحية ونظموا لهم رحلاتهم واستوفدوهم إلى بلاد المسلمين قد أمنوهم، ومن سافر بهم من المسلمين وأوصلوهم إلى بلادهم فقد أمنهم، ومن استقبلهم بالمطار وأدخلهم البلاد فقد أمنهم، فكل ذلك له حكم الأمان الذي يعصم دماءهم وأموالهم.

    بل إن أمنهم من لا يجوز أمانه عندنا كغير البالغ والمعتوه فظنوه أمانا فدخلوا بلادنا فليس لنا أن نعرض لهم بل نبلغهم مأمنهم؛ لعدم تمييزهم بين من يجوز أمانه ومن لا يجوز.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 196-: "وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أو لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أو لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا بأمان فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز". اهـ.

    فما تفعله هذه الطوائف الباغية من التعرض للسائحين والهجوم عليهم وقتلهم، هو افتئات على حكام المسلمين بل هو افتئات على الأمة كلها وخرق لذمتها بما يفقدها مصداقيتها.

    واستدلال هؤلاء على جواز العمليات التفجيرية بما ثبت في السنة الشريفة من جواز تبييت المشركين والغارة عليهم إنما هو مغالطة مفضوحة وقياس فاسد؛ لأن التبييت والغارة لا يكونان إلا مع نبذ العهد والأمان أو ما يعرف في عصرنا الحالي بـ "حالة إعلان الحرب"، ولا تجوز الغارة والتبييت أبدا مع وجود العهد والأمان.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -[4]/ [107]-: "قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ[٥٨]﴾ [الأنفال: 58].

    قال الشافعي: فإذا جاءت دلالة على أن لم يوف أهل هدنة بجميع ما هادنهم عليه فله أن ينبذ إليهم، ومن قلت: له أن ينبذ إليه فعليه أن يلحقه بمأمنه ثم له أن يحاربه كما يحارب من لا هدنة له... إلى أن قال -[4]/ [108]-: وإذا كان أهل الهدنة ممن يجوز أن تؤخذ منهم الجزية فخيف خيانتهم نبذ إليهم.

    وللإمام يعني بعد نبذ العهد لهم وإعلان الحرب عليهم أن يغزو دار من غدر من ذي هدنة أو جزية ويغير عليهم ليلا ونهارا ويسبيهم إذا ظهر الغدر والامتناع منهم". اهـ.

    وقياس ما يفعله الانتحاريون على الخديعة الجائزة في الحرب قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ فإن هناك فارقا كبيرا وبونا شاسعا بين خيانة عهد الأمان اللازم وبين الخديعة المباحة في الحرب، وفي ذلك يقول الإمام ابن جزي في "قوانينه" –ص135- مؤسسا لهذا الفرق: "الفرق بين الأمان اللازم وبين الخديعة المباحة في الحرب: أن الأمان تطمئن إليه نفس الكافر، والخديعة هي تدبير غوامض الحرب بما يوهم العدو الإعراض عنه أو النكول حتى توجد فيه الفرصة فيدخل في ذلك التورية والتبييت والتشتيت بينهم، ونصب الكمين والاستطراد حال القتال، وليس منها أن يظهر لهم أنه منهم أو على دينهم أو جاء لنصيحتهم حتى إذا وجد غفلة نال منهم، فهذه خيانة لا تجوز". اهـ.

    وقال الإمام النووي: "اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز". اهـ انظر: فتح الباري 6/ 183.

    هذا من جهة إثبات حرمة دماء غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم بدخولهم مستأمنين إلى بلاد المسلمين، فلا يجوز حينئذ التعدي عليهم بحال.

    وكذلك الحال في دخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين بتأشيرة الدخول، فكما أنه لا يجوز الغدر بغير المسلمين متى دخلوا بلاد الإسلام مستأمنين، فكذلك الحال بالنسبة للمسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمنا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأي انتهاك لحرماتهم أو تعد عليهم، ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرام ولو تعدى على شيء من ذلك كان غدرا وخيانة منه على ما ذكر العلماء؛ لأنا ذكرنا أن تأشيرة الدخول لغير المسلمين إلى بلاد المسلمين عقد أمان، وكذلك هي بالنسبة لدخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين؛ لأنهم لم يعطوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه، وهذا إذا لم يكن مذكورا في اللفظ فهو معلوم في المعنى كما يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني"، وسيأتي نص كلامه، وعقد الأمان يقتضي الاستئمان لطرفي العقد وأن كلا منهما جعل الآخر منه في أمان، فليس للمسلم حينئذ خيانتهم ولا الغدر بهم.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 164، 165، 188-: "فإن أمنوه أو بعضهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه، وهم قادرون عليه، فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين.

    فأمانهم إياه أمان لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم.

    إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم. ولا نعرف شيئا يروى خلاف هذا". اهـ.

    وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "السير الكبير مع شرح السرخسي" -2/ 66، 67، ط: دار الكتب العلمية-: "ولو أن رهطا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتابا يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعة منهم للمشركين، فقالوا لهم: ادخلوا، فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب ولا أخذ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم". اهـ.

    قال شارحه: لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين المسلمين حقيقة، وإنما يبنى الحكم على ما يظهرون؛ لوجوب التحرز عن الغدر، وهذا لما بينا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي. اهـ.

    وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" -12/ 587، ط: دار الحديث-: "مسألة: من دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم.

    وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورا في اللفظ فهو معلوم في المعنى". اهـ.

    ومن هنا يتبين لنا أيضا مدى جسامة خطأ ما يفعله هؤلاء البغاة في بلاد غير المسلمين من عمليات انتحارية غادرة يفجؤون ويفجعون بها من استأمنوهم وأدخلوهم إلى بلادهم، وأن هذه العمليات لا تجوز مطلقا، بل هي متنافية مع تعاليم الإسلام ونبله الذي ينهى عن الغدر والخيانة خاصة بمن أدخلونا مستأمنين إلى بلادهم.

    وما يبرر به هؤلاء إرجافهم وفسادهم من أنهم إنما يقومون بالتفجيرات في بلاد تحارب المسلمين أو ضد رعايا بلاد تحارب المسلمين مردود بأن هذه العمليات الغادرة لا تفرق بين مدني وعسكري.

    ومن المقرر شرعا أنه لا يجوز الإقدام على قتل المدنيين رجالا أو نساء، وإذا أعلنت راية الجهاد فيجب أن يكون القتال فيه قائما على التمييز بين المحارب وغيره، خاصة إذا علم أنه كثيرا ما ترفض الشعوب في بلاد غير المسلمين الديمقراطية ما تقوم به حكوماتهم من حروب ضد بعض البلاد الإسلامية، وتقوم المظاهرات المعارضة لتلك الحروب، سعيا إلى إسقاط الحكومات التي أعلنت الحرب، مما يعني أن أفراد الشعوب بإطلاق ليست كلها محاربة تبعا لحكوماتها، فأما تعميم القتال والقتل بلا تمييز بين المحاربين والمدنيين فليس هذا من الإسلام في شيء، وقد تقرر في كليات الشرع الشريف وأصوله أنه لا يؤاخذ إنسان بذنب غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164].

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 108-: "فإن تميزوا أو يخالفهم قوم فأظهروا الوفاء وأظهر قوم الامتناع كان له غزوهم ولم يكن له الإغارة على جماعتهم، وإذا قاربهم دعا أهل الوفاء إلى الخروج، فإن خرجوا وفى لهم وقاتل من بقي منهم، فإن لم يقدروا على الخروج كان له قتل الجماعة ويتوقى أهل الوفاء، فإن قتل منهم أحدا لم يكن فيه عقل ولا قود؛ لأنه بين المشركين وإذا ظهر عليهم ترك أهل الوفاء فلا يغنم لهم مالا ولا يسفك لهم دما". اهـ.

    فيتضح من قوله: "ولم يكن له الإغارة على جماعتهم" أنه طالما كان فيهم من لم يحاربنا وهم كثير من أفراد شعوب العالم غير المسلمين الذين يرفضون الحروب التي تشنها حكوماتهم على بعض بلاد الإسلام فليس لنا الإغارة على جماعتهم بالعمليات التفجيرية أو الانتحارية، ومن كلام الشافعي يعلم بطلان استدلال هؤلاء بجواز الإغارة على جواز العمليات الانتحارية ضد غير المسلمين في غير حالة الحرب المعلنة بلا تمييز بين محارب وغيره.

    وبناء على ما سبق فإن التعرض للسائحين الأجانب الذين يأتون لبلاد المسلمين بالقتل أو بالأذى منكر عظيم وذنب جسيم؛ لتعارضه مع مقتضى تأميننا لهم الذي ضمناه لهم بسماحنا لهم بدخول بلادنا بالطرق الشرعية، وكذلك الحال في التعرض لغير المسلمين في بلادهم بالعمليات الانتحارية أو التفجيرية فإنه حرام لا مرية فيه أيضا؛ لتعارضه مع مقتضى إعطائهم الأمان من أنفسنا بطلبنا دخول بلادهم بطريقة شرعية، وقد أمرنا الشرع الشريف بالالتزام بالعقود والعهود والمواثيق، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].

    وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» أخرجه الحاكم في المستدرك والدارقطني في سننه والبيهقي في السنن الكبرى.

    وقد توعد الشرع أمثال هؤلاء الذين ينقضون عهود الأمان مع من أمنوهم وأدخلوهم إلى بلادهم أو باستهداف من أمنهم المسلمون وأدخلوهم إلى ديارهم بحمل لواء الغدر يوم القيامة، فروى ابن ماجه عن عمرو بن الحمق الخزاعي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أمن رجلا على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة».

    كما أن هذه الأفعال من كبائر الذنوب؛ لأنها سفك للدم الحرام وقتل لنفوس الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، وقد عظم الشرع الشريف دم المسلم ورهب ترهيبا شديدا من إراقته أو المساس به بلا حق، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[٩٣]﴾ [النساء: 93].

    وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»، كما حرم الله قتل النفس مطلقا بغير حق فقال عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151].

    بل جعل الله تعالى قتل النفس مسلمة أو غير مسلمة بغير حق قتلا للناس جميعا، فقال سبحانه: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].

    كما أن فيها قتلا للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يفتك المؤمن، الإيمان قيد الفتك».

    قال ابن الأثير في النهاية: الفتك أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل فيشد عليه فيقتله. اهـ.

    ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرف؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفتك المؤمن» هو نهي، أو خبر بمعنى النهي.

    ومن المؤكد شرعا في أحكام الجهاد أنه لا يجوز قتل من لم تبلغه الدعوة حتى وإن كان محاربا غير مستأمن، وأنه تجب ديته على من قتله.

    قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" -4/ 157-: "فإن قتل أحد من المسلمين أحدا من المشركين لم تبلغه الدعوة وداه". اهـ.

    فكيف بمن قتل المستأمنين وغدر بهم، وخان ذمة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة المسلمين وولاتهم.

    كما أن هذه الأفعال منافية لمقاصد الشرع الكلية: فالشرع الشريف جاء وأكد على وجوب المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهي: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهي ما تسمى بالمقاصد الشرعية الخمسة.

    ومن الجلي أن التفجيرات المسؤول عنها تكر على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، ومنها مقصد حفظ النفوس؛ فالمقتول إن كان هو الانتحاري القائم بعملية التفجير الذي يقحم نفسه في الموت إقحاما بتلغيم نفسه أو نحو ذلك فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة» متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.

    وإن كان غيره، فإن كان المقتول مسلما فقتله عمدا عدوانا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبته وعدمه خلاف بين الصحابة ومن بعدهم، وإن كان غير مسلم فإن كان في بلادنا فهو مستأمن، وإن كان في بلاده فهو مواطن غافل لا جريرة له، وفي جميع الأحوال فإن نفوس هؤلاء مصونة يحرم التعدي عليها ويجب صيانتها.

    كما تكر هذه التفجيرات بالبطلان أيضا على مقصد حفظ الأموال؛ فلا يخفى ما ينتج عنها من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلف ليس مملوكا للمتلف بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى.

    كما أنه يلزم عنها مضار ومفاسد شنيعة، فمدار الشريعة المطهرة على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتعطيلها، ولا يخفى على كل ذي لب ما تجره هذه الأعمال التخريبية من مفاسد على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ منها أنها تستعمل تكأة وذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الإسلامية والتسلط عليها واستغلال خيراتها وانتهاب مواردها بحجة ملاحقة الإرهاب أو المحافظة على المصالح الاقتصادية أو تحرير الشعوب، فمن أعان هؤلاء على تحقيق مقصدهم وبلوغ مأربهم بأفعاله الخرقاء فقد فتح على المسلمين وبالا وشرا، وفتح للتسلط على بلاد الإسلام ثغرا، وأعان على انتقاص المسلمين وضعف قوتهم، وهذا من أعظم الإجرام.

    ومن المفاسد العظيمة أن هذه الأفاعيل الدنيئة الخارجة عن تعاليم الإسلام ونبله تزيد من ترسيخ الشائعات والاتهامات الباطلة التي يلصقها أعداء المسلمين بدين الإسلام ويريدون بها تشويه صورته من أنه دين همجي دموي غايته قهر الشعوب والفساد في الأرض، وهذا كله من الصد عن الله وعن دين الله.

    ومن المفاسد العظيمة أيضا ما يترتب على ذلك من تعريض المسلمين الموجودين في بعض البلدان الأجنبية للاضطهاد والتنكيل من قبل المتعصبين، فيتعرضون للإيذاء الشديد في أنفسهم وذويهم وأموالهم وأعراضهم، وقد يضطر بعضهم إلى الإسرار بدينه أو التخلي عن بعض الشعائر والفرائض، كل هذا بسبب هذه الأعمال الخرقاء التي قام بها هؤلاء الجهلة الذين لا يدرون ما يريدون ولا ما يراد بهم، ويتقحمون موارد الهلكة وهم يظنون أنهم يطبقون الشرع، وهم بذلك ينالهم نصيب من قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[١٠٤]﴾ [الكهف: 104].

    وقد نص العلماء [على] أنه لو تعارضت المصلحة مع المفسدة فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وكلام علمائنا هذا في المصالح المحققة فكيف إذا كانت المصلحة متوهمة أو معدومة؟ أما ما يقوله هؤلاء الأغرار من أن هذه الأعمال من باب الجهاد والنكاية في العدو وقد يسميها بعضهم بالغزوات فهو محض جهل ومغالطة؛ فالجهاد المشروع في الإسلام هو ما كان تحت راية وبإذن الإمام، وإلا لآل الأمر للفوضى وإلى إراقة برك الدماء بغير حق بحجة الجهاد، والجهاد في الإسلام إنما هو لتحقيق غايتين اثنتين: الأولى: الدفاع عن المسلمين، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[١٩٠]﴾ [البقرة: 190].

    الثانية: الدفاع عن حرية الناس في الإيمان بالإسلام أو البقاء على ما هم عليه، وهذه هي الفتنة التي أمرنا أن نقاتل حتى نرفعها عن الناس؛ ليختاروا دينهم بحرية كاملة، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[١٩٣]﴾ [البقرة: 193].

    ومن الواضح أن الجهاد لتحقيق هاتين الغايتين لا يكون إلا ضد عدو خارجي.

    أما استعمال القتل والترويع وتدمير الممتلكات داخل المجتمع المسلم، كما هو الحال في الأعمال التفجيرية في بلاد المسلمين فيسمى عند الفقهاء بـ"الحرابة"، والحرابة بغي وإفساد في الأرض، والمتلبس بها مستحق لأقصى عقوبات الحدود من القتل والسرقة والزنا؛ لأنه إفساد منظم يتحرك صاحبه ضد المجتمع.

    قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[٣٣]﴾ [المائدة: 33].

    ولا يجوز ذلك أيضا في الدول والمجتمعات غير المسلمة، فإذا انضاف إلى ذلك وجود المعاهدات الدولية بينهم وبين المسلمين وأنهم يفتحون باب الدعوة للمسلمين كما يفعلون ذلك مع غير المسلمين فإن القيام بهذه العمليات الإجرامية أشد حرمة وأكثر فسادا، بل إنه حتى مع قيام الحرب الفعلية فإن التعميم في القتال غير جائز؛ إذ لا يجوز قتل النساء غير المقاتلات والأطفال والشيوخ العجزة والعسفاء وهم الأجراء الذين يعملون في غير شؤون القتال، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[١٩٠]﴾ [البقرة: 190].

    وقد نقل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هذه الآية محكمة لم تنسخ، قال: لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيؤون لقتالكم، أي: لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان. اهـ.

    وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث أميرا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، فقال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا».

    وروى أحمد في مسنده عن المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب أنه أخبره «أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما كانت هذه لتقاتل، فقال لأحدهم: الحق خالدا، فقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا».

    وقال الإمام النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا. اهـ.

    وإذا اعتبرنا أن العلة في القتال هي المحاربة فإن كل من لا يقاتل يلحق بما ورد ذكره في النصوص الشرعية كالأعمى والمريض المزمن والمعتوه والفلاح وأمثالهم، وهؤلاء هم ما يسمون في المصطلح المعاصر بـ "المدنيين" فلا يجوز إذايتهم ولا إتلاف أموالهم فضلا عن قتلهم، فقتل المدنيين من الكبائر.

    ومن مغالطات هؤلاء البغاة وشبههم التي يبررون بها فسادهم وإفسادهم: قياس قتل السياح بما فيهم من النساء والأطفال على مسألة التترس التي يذكرها العلماء.

    وهذا قياس فاسد؛ لأن الفرق واضح بين صورة التترس التي ذكرها الفقهاء والصورة التي يحاول فيها هؤلاء تبرير أفعالهم الإجرامية، فحالة الحرب التي يقوم أثناءها العدو بالتترس بالنساء والصبيان أو المسلمين لمنع قوات المسلمين من مهاجمتهم إنما هي حالة ضرورة، ومع هذا إذا لم تدع ضرورة لقتل الترس تركنا قتله، والضرورة لها ضوابط واضحة وقاطعة ذكرها الفقهاء، وأما القصد ابتداء إلى جماعة من السياح فيهم رجال ونساء وأطفال وقتلهم قتلا عاما خيانة وغدرا دون تترس ولا ضرورة لقتلهم، فهو عدوان محض لا تتحقق فيه صورة التترس ولا شيء من المعاني المراعاة فيه، ولو تركوهم كلهم لأجل من فيهم من النساء والأطفال فلن يتسبب ذلك في منع الجهاد ولا في جعله طريقا إلى الظفر بالمسلمين.

    وكلام علماء الشريعة في مسألة التترس بالمسلمين إنما هو إذا دعت الضرورة، وكان ذلك حال التحام القتال، ولا علاقة لذلك بما يروج له البغاة والمرجفون.

    وهؤلاء الذين يقومون بتلك الأعمال الانتحارية هم في الحقيقة يتلاعبون بالدين والشريعة وقواعدها المستقرة، ويعتمدون على المغالطات الفقهية والتلبيس على الناس، مع الجهل الفاضح بأصول الاستدلال والترجيح بين الأدلة الشرعية، واتباع الهوى في فهم الشريعة تقييدا وإطلاقا خلافا لما جرى عليه علماء الشريعة.

    وفكرهم فكر فاسد ومنحرف يسعى لتأصيل الإسراف في سفك الدماء التي عصمتها الشريعة الإسلامية.

    ورغم الدعاوى العريضة بالجهاد وتوزيع الاتهامات الجزافية على من يخالفهم في الرأي، فإن نتيجة ما يقوم به هؤلاء البغاة إنما هي سقوط الدول الإسلامية تحت نير الاستعمار العسكري، وملء القبور والسجون من المسلمين الأبرياء، وأعمالهم الفاسدة هذه تصب في صالح أعداء الأمة الإسلامية، وقد جرت الوبال والمصائب التي تسببت في مقتل مئات الألوف من المسلمين، فالقول بأنهم يدافعون عن المسلمين هو مجرد دعوى كاذبة، بل هم يقتلون المسلمين ويشردونهم بأضعاف ما يفعل غير المسلمين بهم، فهم لم يدفعوا بما ادعوه من جهاد عن المسلمين عدوا، بل جروا عداوة الأمم على المسلمين واستعدوهم عليهم، وزادت الأمة بما يفعلونه ضعفا.

    والحقيقة التي ينبغي ألا يغفل عنها المسلمون أن هؤلاء مبتدعة وبغاة وأصحاب هوى، ومثل هؤلاء لا يؤخذ عنهم العلم أصلا ولا فرعا؛ لأنهم أصحاب بدع وأهواء ومخالفة لعقائد أهل السنة والجماعة، خاصة أنهم يدعون إلى بدعهم وأهوائهم ويحاربون عليها، ويجب على ولاة أمور المسلمين أن يعملوا على رد الجاهل الذي لم يحمل منهم السلاح إلى رشده بالحسنى والقول السديد، أما من حمل منهم السلاح فهو باغ يقاتل حتى تكسر شوكته ويكفى الإسلام والمسلمون شره.

    ومما سبق وفي واقعة السؤال: يعلم أن تأشيرة الدخول هي عقد أمان يوجب الأمان لطرفيه، فلا يجوز الغدر ولا الخيانة من الطرفين، وأن الجهاد فريضة محكمة إلى يوم القيامة، وأن ما تقوم به الجيوش النظامية اليوم في بلاد الإسلام من حماية الحدود وتأمين الثغور وقوى الردع هو قيام بجانب فرض الكفاية فيه وأداء لما ترى أنه في استطاعتها منه، وأن ذلك يرفع عن الجهاد وصف الفريضة الغائبة، وحتى لو كان هناك تقصير في الجهاد من قبل حكام المسلمين فإنه لا يبرر بحال من الأحوال هذه الأعمال التخريبية التي تهلك الأخضر واليابس، وأنه إذا مكنت الدعوة للإسلام ولم تمنع فلا يلجأ إلى القتال، وأن التفجيرات والأعمال الانتحارية التي يقصد بها غير المسلمين الذين يزورن بلاد المسلمين لأغراض غير حربية أو في بلادهم التي دخلناها بتأشيرات الدخول هي حرام وغدر وخيانة لا علاقة لها بالإسلام، وليست هي من الجهاد الشريف أو الحرب المشروعة في الإسلام.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    المبادئ

    1- الجهاد يكون فرض عين في البلاد التي يعتدى فيها على حرمات المسلمين أو مقدساتهم من قبل الغزاة البغاة.

    2- دلت النصوص الشرعية على وجوب الوفاء بالعهود التي منها ثبوت الأمان للمستأمن ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه.

    3- التعرض للسائحين المستأمنين والهجوم عليهم وقتلهم حرام بالإجماع، وهو افتئات على الأمة كلها وخرق لذمتها.

    4- من المقرر شرعا أنه لا يجوز الإقدام على قتل المدنيين رجالا أو نساء.

    5- اتفق العلماء على أنه لو تعارضت المصلحة مع المفسدة فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
     

    دار الإفتاء المصرية

    رقم الفتوى: 1637 لسنة 2009 تاريخ النشر في الموقع : 15/12/2017

    المفتي: علي جمعة محمد
    تواصل معنا

التعليقات