• حكم الاقتراض بفائدة من البنوك في بلاد غير المسلمين

    سئل عن حكم الشرع في الاقتراض بالفائدة من البنوك في بلاد غير المسلمين، حيث إن الحاجة إلى ذلك ملحة.
     

    العقود الفاسدة كبيع الخمر والربا مع غير المسلمين في بلاد غير المسلمين من المسائل القديمة التي تكلم عنها العلماء، ومن خلال ما اختاره السادة الحنفية أقول: لقد ذهب الإمامان أبو حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف إلى أنه لا ربا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين، وأن المسلم في تلك الدار له أخذ أموالهم بأي وجه كان، ولو بالعقد الفاسد كالقمار أو بيع الميتة والخمر أو الربا وغير ذلك ما دام برضا أنفسهم، قال محمد: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ عنهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان)[1].

    أقول: ولقد سمى محمد وغيره دار غير المسلمين بدار الحرب للتقسيم الذي كان شائعا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين، فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، والتقسيم الحديث بين علماء الإسلام بعدما انتهت حالة الحرب التي شنت على المسلمين هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة -والحمد لله رب العالمين- فليتنبه إلى ذلك؛ لأننا ننقل هنا من الكتب القديمة لبيان مذهب الأحناف فنحافظ على ألفاظهم.

    ومما ينبغي أن يتنبه إليه أيضًا في هذا المقام أن مراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار الكفر مطلقا، سواء أكانت الحرب قائمة أم لا، بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفر لا حرب فيها وهي مكة قبل الهجرة كما سيأتي ولم تكن هناك في العالم دار حرب، وصورة الدليل قطعية الدخول في الحكم إجماعا.

    ثم قال محمد رحمه الله: (ولو أن المستأمن فيهم -أي الحربيين- باعهم درهما بدرهمين إلى سنة، ثم خرج إلى دارنا ثم رجع إليهم، أو خرج من عامه ثم رجع إليهم، فأخذ الدراهم بعد حلول الحول لم يكن به بأس)[2] ، وقال السرخسي بعد ذكره لمرسل مكحول -لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب-: (وهو -أي مرسل مكحول- دليل لأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله)[3] ، وقول الإمامين أبي حنيفة ومحمد هو المعتمد والمختار عند السادة الحنفية، فقد قال الإمام السرخسي بعد نصه السابق: (وحجتنا -السادة الأحناف- في ذلك ما روينا وما ذكر عن ابن عباس -رضي الله عنه- وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال في خطبته «كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وإن الله -عز وجل- قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب»، وهذا لأن العباس -رضي الله عنه- بعد ما أسلم رجع إلى مكة، وكان يربي، وكان لا يخفى فعله عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح)[4] ، أي فصارت مكة دار إسلام، وقال المرغيناني[5]، والكمال بن الهمام[6]، والحصفكي[7]، وابن عابدين[8]، قالوا جميعا: (لا ربا بين المسلمين والحربي في دار الحرب، وذكروا أن المسلم في دار الحرب له أن يأخذ مال الحربيين بأي وجه كان بغير غدر منه)؛ لأن الغدر حرام، وظاهر كلام السادة الحنفية أن الحكم عام في أخذ المسلم للربا في دار الحرب وإعطائه.

    ولكن الكمال بن الهمام ذكر أن أئمة الحنفية في دروسهم قيدوا حل الربا للمسلم في دار الحرب بأخذه من الحربي، فقال: (إلا أنه لا يخفى أنه إنما يقتضى حل مباشرة العقد -أي عقد الربا- إذا كان الزيادة ينالها المسلم، والربا أعم من ذلك؛ إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان -يعني بالدرهم- من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين، وكذلك القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له، فالظاهر أن الإباحة تفيد نيل المسلم للزيادة، وقد التزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم في حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم نظرا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه)[9] ، ونقل ذلك عنه ابن عابدين[10]، ويمكن التمسك بظاهر المذهب إذا كانت المصلحة الأخيرة للمسلم حتى لو دفع الزيادة، وقد استدل السادة الحنفية على ما ذهبوا إليه بأدلة منها: 1- ما ذكر عن مكحول عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب»[11] ، قال السرخسي: (وإن كان مرسلا فمكحول فقيه ثقة، والمرسل من مثله مقبول)[12] ، واستدل بهذا الدليل أيضًا المرغيناني[13]، والكمال بن الهمام[14].

    2- واستدل محمد -رحمه الله- بحديث بني قينقاع[15]، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين أجلاهم قالوا: (إن لنا ديونا لم تحل بعد)، فقال: «تعجلوا أو ضعوا»، ولما أجلى بني النضير، قالوا: (إن لنا ديونا على الناس)، فقال: «ضعوا أو تعجلوا».

    وبين السرخسي وجه الدلالة فقال: (ومعلوم أن مثل هذه المعاملة -الربا المتمثل في قوله: «ضعوا أو تعجلوا»- لا يجوز بين المسلمين؛ فإن من كان له على غيره دين إلى أجل فوضع عنه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز، كره ذلك عمر وزيد بن ثابت وابن عمر -رضي الله عنهم-، ثم جوزه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في حقهم؛ لأنهم كانوا أهل حرب في ذلك الوقت ولهذا أجلاهم، فعرفنا أنه يجوز بين الحربي والمسلم ما لا يجوز بين المسلمين)[16].

    3- وبما وقع عند مصارعته -صلى الله عليه وآله وسلم- ركانة حين كان بمكة فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في كل مرة بثلث غنمه، ولو كان مكروها ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم لما صرعه في المرة الثالثة قال ركانة: (ما وضع أحد جنبي قط، وما أنت صرعتني)، فرد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الغنم عليه[17].

    يقول السرخسي: (وإنما رد الغنم عليه تطولا منه عليه، وكثيرا ما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مع المشركين يؤلفهم به حتى يؤمنوا)[18] ، ولا يخفى أن مكة حينئذ لم تكن دار حرب، بل كانت دار كفر.

    4- وما قاله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما رواه عنه ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره قال: قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: «ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله»[19].

    ووجه الدلالة في هذا الحديث: أن العباس -رضي الله تعالى عنه- بعدما أسلم بعد أن جيء به أسيرا في غزوة بدر استأذن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الرجوع إلى مكة بعد إسلامه، فأذن له، فكان يربي بمكة إلى زمن الفتح، وكان فعله لا يخفى على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ربا في دار الحرب ما لم يقبض، حتى جاء الفتح فصارت مكة دار إسلام؛ ولذا وضع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الربا عند الفتح)[20].

    [5]- ولأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قامر مشركي قريش قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: ﴿الم[١] غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: 1 - 2].

    فقالت قريش له: ترون أن الروم تغلب؟ قال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا؟ فقال: نعم، فخاطرهم، فأخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «اذهب إليهم فزد في الخطر»، ففعل وغلبت الروم فارسا، فأخذ أبو بكر خطره، فأجازه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-[21] ، وهو القمار بعينه بين أبي بكر ومشركي مكة، وكانت مكة دار شرك[22]، ولا يخفى أن مكة هنا أيضًا لم تكن دار حرب، حيث كان ذلك قبل شرع الجهاد أصلا.

    6- ولأن مالهم مباح فحق للمسلم أن يأخذه بلا غدر؛ لحرمة الغدر، لأن المسلمين لو ظهروا على ديارهم لأخذوا مالهم بالغنيمة[23].

    وبعد، فحاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في ديار غير المسلمين بين المسلم وأهل تلك الديار، سواء أكان العقد بيعا لميتة أم خنزير أم خمر أم مقامرة، وما يجب أن يلتفت إليه مطالع هذا النقل عن السادة الحنفية أن يضع في اعتباره أن أهل المذاهب الأخرى لديهم قواعد يمكن من خلالها التعامل مع حالات الضرورة والابتلاء، ويمكن من خلالها عقد صلة بين ما ذهب إليه السادة الحنيفة وبين أقوال المذاهب في المسألة ذاتها، ومن هذه القواعد: 1- تقليد القائل بالجواز عند الضرورة رفعا للحرج، فقد قال الشيخ العلامة إبراهيم البيجوري[24] : (فمن ابتلي بشيء من ذلك فليقلد من أجاز).

    2- الإنكار يكون في المجمع عليه: فقد ذكر العلامة السيوطي[25] (لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه)، وهذا يعني أن المسألة إذا اختلف فيها أهل المذاهب الفقهية فلا يصح لأهل مذهب أن ينكروا على أهل مذهب آخر؛ لأن المسألة مختلف فيها.

    3- التفريق بين حد الفقه والحكم وحد الورع: فقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن حد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي؛ وذلك لأن المسلم قد يترك كثيرا من المباح تورعا، كما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- يتركون تسعة أعشار المباح ورعا خشية أن يقعوا في الحرام، ولكن هذا لا يعني أنهم يحرمون الحلال، والورع واسع حتى يصل إلى أن يخرج الإنسان من جميع ماله تورعا من أن يناله شيء من الحرام.

    فعلى ما سبق تقديمه من مذهب السادة الحنفية يكون الاقتراض بالفائدة من البنوك في بلاد غير المسلمين جائزا لا حرمة فيه؛ لأن هذه الديار ليست محلا لإقامة الإسلام فيها، ولأن القروض إنما هي برضا أنفسهم، ولأن ذلك فيه مصلحة للمسلمين؛ لاندماجهم في مجتمعاتهم وعدم الانعزال عنها مما يحفظ عليهم كيانهم ومصالحهم ويمكنهم من الدعوة إلى صحيح الدين من غير صدام ولا نزاع مفتعل.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.


    المبادئ:-
    1- حاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في ديار غير المسلمين بين المسلم وأهل تلك الديار، أما أهل المذاهب الأخرى فلديهم قواعد يمكن من خلالها التعامل مع حالات الضرورة والابتلاء، ويمكن من خلالها عقد صلة بين ما ذهب إليه السادة الحنفية وبين أقوال المذاهب في نفس المسألة.

    2- من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليقلد من أجاز.

    3- لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه.

    4- اتفقت كلمة الفقهاء على أن حد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي؛ وذلك لأن المسلم قد يترك كثيرا من المباح تورعا.

     

    [1] شرح السير الكبير (4/1411).
    [2] شرح السير الكبير (4/148).
    [3] المبسوط (14/56).
    [4] المبسوط (14/56).
    [5] في كتاب الهداية مع البناية (7/384، 385).
    [6] في فتح القدير (6/177).
    [7] في الدر المختار.
    [8] في حاشينه عليه (4/188).
    [9] في فتح القدير (6/178).
    [10] في حاشيته (4/188).
    [11] مرسل مكحول ذكره الشافعي في الأم (7/359)، وذكره أبو يوسف في الرد على سيرة الأوزعي (1/97)، وذكره أبو يوسف في الرد على سيرة الأوزاعي (1/97)، والزيلعي في نصب الراية (4/44)، والحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/158)، وذكره اب قدامه في المغني (4/47)، ولكنه قال عنه: وخبرهم مرسل لا نعرف صحته ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، وقد استدل به صاحب المبسوط (14/56).
    [12] المبسوط (14/56).
    [13] في الهداية البناية شرح الهداية (7/384).
    [14] في فتح القدير (6/178)، ونقل كلام السرخسي على الحديث.
    [15] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (2/60)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
    [16] شرح السير الكبير (4/1412).
    [17] أصل حديث المصارعة بدون ذكر أنها كانت على شياه، رواه أبو داود (4/55/511)، والترمذي (4/247)، والحاكم في المستدرك، أما من ذكر في حديث المصارعة أنها كانت على شياه: فقد رواه معمر بن راشد في جامعه (11/427)، وأبو داود في المراسيل (1/235).
    [18] شرح السير الكبير (4/1412)، واستدل به أيضًا في المبسوط (14/57).
    [19] أخرجه مسلم في صحيحه (2/889)، وأبو داود في سننه (2/185).
    [20] انظر السير الكبير مع شرحه (4/1488)، والمبسوط (14/75).
    [21] رواه الترمذي (5/342) وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
    [22] فتح القدير (6/178) وانظره أيضًا في شرح السير الكبير (4/1411) والمبسوط (14/57).
    [23] شرح السير الكبير (4/1410) البناية في شرح الهداية (7/385)، والمبسوط (14/85) وفتح القدير (6/178)، وحاشية ابن عابدين (4/188).
    [24] في حاشيته على شرح ابن القاسم الغزي على متن أبي شجاع.
    [25] راجع الأشباه والنظائر: القاعدة الخامسة والثلاثون من القواعد الكلية.

    دار الإفتاء المصرية

    رقم الفتوى: 331 لسنة 2006 تاريخ النشر في الموقع : 15/12/2017

    المفتي: علي جمعة محمد
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة