• لبس الحرير والتحلي بالذهب

    هل اتخاذ المسلم الحرير دثارًا، والتحلي بالذهب شعارًا، محرم عليه حقيقة بإجماع الأئمة، ما نص كتاب الله وسنة رسوله في ذلك؟

    ورد في حديث الصحيحين وغيرهما النهي عن لبس الحرير والوعيد على ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وحملوه على الحرير المحض، قالوا: ومثله الغالب فيه الحرير لما يأتي، وخصه بعضهم كالحنفية باللبس، فلا مانع عندهم من الدثار ونحو الزنار، وحرم بعضهم كل استعمال حتى أغطية الأواني. وقالوا: فالنهي خاص بالرجال لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا»، صححه الترمذي ولكن في إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم: إنه لم يلقه، وقال ابن حبان في صحيحه: إن حديثه عنه لا يصح، وقالوا فيه غير ذلك. وجملة القول فيه أنه لا يحتج به، وكذلك حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حريرًا فجعله في يده اليمنى وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي»، زاد ابن ماجه: «حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ»، ولا حاجة إلى تفصيل ما قالوه في إعلاله والطعن بسنده.

    ولكن جرى العمل في السلف والخلف على لبس النساء الحرير والتحلي بالذهب. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قزّ، أما السَّدَى والعَلَم فلا نرى به بأسًا. ورجال الحديث ثقات ومن ضعف خصيف بن عبد الرحمن من رجاله لم يشك في صدقه، وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة. وأخرجه الحاكم بسند صحيح والطبراني بإسناد حسن، وثبت في الصحيح: أن الصحابة لبسوا الخز، وكانت ثياب الخز على عهدهم تنسج من حرير وصوف. وروى أبو داود: أن عشرين صحابيًّا لبسوا الحرير الخالص.

    وفي حديث عمر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير الخالص إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما. ومن لفظ: «إِلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ» زاد أحمد وأبو داود: «وَأَشَارَ بِكَفِّهِ». وفي حديث البخاري النهي عن الجلوس على الحرير والديباج. هذا ملخص ما ورد في السنة مختصرًا، أما ما ورد عن العلماء فقد ادّعى بعض الزيدية الإجماع على تحريم الحرير الخالص، وهو غير صحيح، فقد روى ابن علية وغيره الخلاف في أصل التحريم، وكان الذين أباحوه وهم الأقلون يرون أن الأمر والنهي في الأمور الدنيوية العادية للإرشاد؛ أي لا للتحليل والتحريم الديني، ولهذا نظائر لا خلاف فيها، يقولون: الأمر للإرشاد، النهي للإرشاد، والجماهير على تحريم الحرير الخالص للرجال وعلى حل قدر أربع أصابع من المطرز والموشى، ومن السجوف على جوانب الثوب وجيوبه وفروجه، وتحريم ما كان الحرير فيه هو الغالب في النسيج وحل ما كان غيره هو الغالب، وبعضهم يعتبر قلة الحرير وكثرته في النسيج، لوزن كالشافعية، وبعضهم يعتبر النسج، فيكفي أن يكون سداه حريرًا ولحمته قطنًا أو غيره. ومحل هذا الخلاف عند عدم الضرورة أو الحاجة، ففي حديث عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما. ورواية الترمذي أنهما شكوا إليه القمل، كذلك قد ورد النهي عن المعصفر والأحمر وسيأتي تعليله بعد الكلام على الذهب. أما استعمال الذهب في اللباس فقد ورد فيه عن معاوية قال: «نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ رُكُوبِ النِّمَارِ وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلَّا مُقَطَّعًا» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي إسناده ميمون النفاد فيه مقال، وبقية رجال سنده ثقات، ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن الوليد، وفيه مقال أيضًا، والنمار جمع نمر كالنمور في رواية أخرى، والمراد بالمقطع ما كان قطعًا في نحو سيف أو ثوب.

    وأما استعمال الذهب وكذا الفضة في غير اللباس فلم يرد فيها شيء صحيح إلا النهي عن الأكل والشرب في أوانيهما وصحافهما والتختم، ولم ينقل خلاف في الشرب إلا عن معاوية بن قرة، وأما الأكل فأجازه الإمام داود الظاهري، واختلفوا في النهي فحمله بعضهم على الكراهة وهو قول قديم للشافعي، وعليه العراقيون من أصحابه. وردوا عليهم بحديث الصحيحين عن أم سلمة مرفوعًا: «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وفي رواية لمسلم: «يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وفي رواية أحمد وابن ماجه عن عائشة: «كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا» على التشبيه، وأما التختم بالذهب فقد ورد فيه في الصحيح حديث أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه عن علي أنه قال: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ» وفي لفظ لأبي داود والترمذي «نَهَى»، ولكن يؤكد لفظ مسلم وغيره رواية: «ولا أقول نهاكم»، ولذلك ذهب بعض العلماء إلى أن هذا النهي خاص بعلي عليه السلام حملًا له على المبالغة في الزهد. ومن حرم التختم بالذهب ترجيحًا لقول الأصوليين أن الحكم على الواحد حكم على الأمة ما لم يقم دليل على التخصيص؛ يرد عليه قوله: «ولا أقول نهاكم»، ويلزمه تحريم المعصفر، وقد حمل بعضهم النهي فيه على الكراهة تنزيهًا، وذهب جمهور الأمة من الصحابة ومن بعدهم إلى إباحة لبس المعصفر. والقَسي بفتح القاف ثياب من حرير تنسب إلى بلد بمصر، وقيل هي كقزي نسبة إلى القز المعروف، وثمَّ روايات أخرى في النهي عن خاتم الذهب، وخاتم الحديد؛ لأن الأول حلية أهل الجنة، والثاني حلية أهل النار، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود النهي عن حلقة الذهب وسوار الذهب وفيه: «وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا لَعِبًا».

    وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة من نار، ولم أره في المنتقى، وأما مذاهب العلماء فقد حمل الأقلون النهي على التنزيه لا التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين، وإباحة ما عداه من أنواع الاستعمال. وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب عليهما حتى حرم الشافعية اتخاذ الأواني ولو لم تستعمل. فإن جعلوا هذا النهي عن الحرير الخالص، وعن الأكل والشرب في أواني النقدين تعبديًّا؛ امتنع القياس على ما ورد به النص الصحيح، وإن قالوا: إن له علة ترجع لمصلحة الناس في معايشهم وأخلاقهم فهلم نبحث فيها. اختلفت النصوص والآراء في علة النهي عن لبس الحرير والمعصفر بألفاظ تفيد عموم النهي حتى للنساء مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم السندس والديباج الذي أهداه اليه أكيدر دومة ولبس الصحابة له، وعن النهي عن الأكل والشرب في آنية النقدين فقط مع حديث ابن حبان: «وَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنَ الأَحْمَرَيْنِ: الذَّهَبِ وَالْمُعَصْفَرِ»، وفي الصحيحين أن ابن الزبير خطب فقال في خطبته: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمُ الْحَرِيرَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يقول: قال رسول الله: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، وروى النسائي والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن عقبة بن عامر أنه كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول: إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا. وإنما ذكرنا هذا هنا لأن له علاقة بالتعليل. قال بعض العلماء: إن العلة في تحريم الذهب والفضة الخيلاء، فهو إذن كجر الثوب لا يحرم إلا مع الخيلاء، وقال بعضهم: إنه كسر قلوب الفقراء، وقال بعضهم: إن العلة اجتماع هذين الأمرين، وإن أحدهما لا يكفي علة، وهذا هو المعتمد عند الشافعية، وقالوا: إنه يخرج به إباحة استعمال أواني الجواهر كالزمرد والياقوت فإنها مباحة إجماعًا، والخيلاء فيها أظهر منها في آنية النقدين، ولكن ليس فيها كسر لقلوب الفقراء؛ لأن أكثرهم لا يعرفها على أن الخيلاء محرم في نفسه، ويفهم من كلام الغزالي علة أخرى وهي تقليل النقود المسكوكة التي هي موازين التعامل وقضاء الحاجات، وهذه العلة تظهر في تحريم الآنية دون القليل من الحلي، وتنطبق على حديث معاوية المبيح لاستعمال الذهب قطعًا صغيرة في نحو حلي للنساء أو زينة في نحو سيف ومنطقة، وقد ورد في الصحيح أنه كان لقدح النبي سلسلة من فضة، وعند أحمد ضبة من فضة. وبهذا علل الغزالي تحريم الربا، وقال: إن النقدين كالحاكم فمن جعلهما مقصودين بالاستغلال كان كمن حبس القاضي الذي يفصل بين الناس. هذا قول الفقهاء، وأما المحدثون فمنهم من قال: إن العلة في النهي عن الذهب والحرير هي التشبه بأهل الجنة؛ لأن الأحاديث نطقت بذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الذهب: «مَالِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» رواه أصحاب السنن الثلاثة. ومنهم من قال: إن العلة التشبه بالكفار كما في بعض الروايات، ولكن يعارض هذا ما ورد في الصحيح من لبس النبي صلى الله عليه وسلم الجبة الرومية والطيالسة الكسروية، ومنهم من قال: إنه التزهيد في الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي: «فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ»، ولكن الله يقول: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 32]

    والذي يفهم من هذا ومن كل رواية فيها ما يشعر بأن النهي عن الذهب والفضة والحرير؛ لأنه لأهل الجنة أن المراد به النهي عن المبالغة في الترف والنعيم الذي يفسد بأس الأمة ويصرف همتها إلى اللذات والانغماس في التعميم حتى تهمل أمر الدين، وتكون طعمة للطامعين لا مجرد الزهد في الزينة. فالترف هو الذي أهلك الأمم، ودمر القرى، وهو علة الظلم والفساد ومثار الشحناء والفتن، وسبب الاعتداء والخيانة، وهو يختلف باختلاف أحوال الأمم فرب شيء يعد من الأمور العادية عند قوم، وهو عند آخرين غاية السرف والترف، ولا شك أن لبس الحرير المصمت والأكل والشرب في أواني الذهب والفضة هو غاية ما ينتهي إليه الترف والسرف في كل زمان ومكان لا تختلف الأعصار والأحوال إلا في الصنعة فيه، وتظهر هذه العلة في النساء كالرجال كما فهم بعض السلف إذا وصل إلى حد السرف.

    وإذا صح أن هذا هو العلة وأن النهي ليس تعبديًّا كان ما عساه يعرض للإنسان من أكل أو شرب في آنية الذهب والفضة عند كافر وكذا غير كافر فيما يظهر غير محرم، وكان قياس الفقهاء غير الأواني عليها، وقياس الاتخاذ على الاستعمال صحيحًا لاسيما في حالة فقر الأمة. والعمدة في معرفة الترف في الجزئيات ترتب الضرر في الأمة عليه بفشو استعمالها سواء كان في أمر المعاش أو في الأخلاق، فالمسألة تسمى في عرف هذا العصر أدبية اقتصادية.

    وقد بحث علماء الاقتصاد السياسي في استعمال ماعون الزينة وأثاثه ورياشه هل هو ضار بالأمة أم نافع، فرجحوا أنه نافع لأنه إذا لم يتنافس الأغنياء في ذلك يجتمع أكثر المال عند فئة من البارعين في الكسب، ويقع باقي الأمة في مهواة الفقر والعوز، وإذا كان للأغنياء تنافس فيما وراء الحاجيات مما ذكر (وهو ما يسمونه الكماليات وسماه الشاطبي في الموافقات التحسينات)، ينفتح بذلك أبواب كثيرة لارتزاق الفقراء والمتوسطين منهم. وإذا تبين بالاختبار أن استعمال كذا وكذا من الذهب والفضة والحرير لا ينافي الاقتصاد، بل تقتضيه مصلحة الأمة في مجموعها؛ لم يكن وراءه إلا رعاية الأخلاق. فإذا كان استعماله غير مؤثر في فساد الأخلاق، وضعف بأس الأمة فلا بأس به، وإلا وجب اجتنابه. ويختلف هذا في الأفراد باختلاف نياتهم ومقاصدهم، وما يعرفونه من تأثيره في أنفسهم، ولعله لا يوجد ضابط للضار والنافع للأمة مثل حديث معاوية السابق في القلة والكثرة، وحديث ابن عباس ومذهبه في الحرير.

    والخلاصة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة لبسًا وجلوسًا عليه. وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه، وقال الفقهاء: أي بلا حائل، فإن كان هناك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك فلا بأس عندهم. وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب على ما فيه، وأن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم، والجماهير حملوه على التحريم، وأن داود خصه بالشرب، وأكثر المتحدثين بالأكل والشرب، وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء. وأن الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص والله أعلم[1].

    [1] المنار ج7 (1904) ص419-424.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 76 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة