• فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها

    رجل غريب كتب إلينا بأن عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو: الحديث المشهور: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الإِسْلَامِية أو فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» أصحيح هو؟ وما هي الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة، أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا الحديث الشريف[1]؟

    أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة، فالحديث عنده منقطع بلفظ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه: «يُشَرِّكَانِهِ» بدل يمجسانه. والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[٣٠]﴾ [الروم: 30]. وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث، وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلًا. إننا نرى جميع أهل الملل -حتى الكتابيين- يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم تقليدًا أعمى.

    ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق، مثل ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلًا يعتقد أن الله اصطفى كل يهودي وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين. وإذا عذبه، فإنما يعذبه أيامًا معدودات. وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله تعالى، إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها، فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير. وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة. أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة، فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس.

    ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية، كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على الكفر والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.

    والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا، فليسألْ عن الشواهد يُجَبْ. وفي باب التفسير من هذا الجزء شيء من ذلك[2].

    ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم، وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم، لا على قبول التسمي والرضى باللفظ والمعيشة مع أصحابه، ولذلك قال في بعض المسلمين: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14]، وقال: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [النساء: 123] الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في هذا الجزء. فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه موافق لسنن الله تعالى في الخلقة الإنسانية لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة كل مولود على هذه الفطرة هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو شقائه في الدنيا والآخرة. فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس الطبيعة، وإذا كان له أبوان (وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه) على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة، فالنصرانيان يُنشِّآن ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب القول به والاعتماد عليه وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه بجنين فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم مكَّن شرارهم من صلبه فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا. فهذا يا سيدي معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة فإن هذا ليس من الفطرة في شيء. وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق والباطل. ورواية مسلم هكذا: «كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ بَعْدُ يُهَوِّدَانِهِ، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ، فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ، فَمُسْلِمٌ» وهو الذي جرينا عليه في كتابنا الحكمة الشرعية ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله أعلم.

    [1] المنار ج8 (1905) ص18-21.
    [2] المنار ج8 (1905) ص9-17.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 135 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات