• مسألة خلق كل شيء من نور النبي صلى الله عليه وسلم وأول من خلق الله

    ما صحة قول أن أول ما خلق الله نور نبينا صلى الله عليه وسلم ومنه استمد جميع مخلوقاته[1].

    قولهم إن أول ما خلق الله نور نبينا صلى الله عليه وسلم لا تكاد تجده في غير هذه القصص التي يسمونها الموالد إلا قليلًا، ويروونه عن عبد الرزاق، وليس في الأيدي نسخة من جامعه أو مصنفه، ولا هو مما يتلقاه أهل هذا العصر بالرواية فيعتد بنسبته إليه، فالعمدة في قبول ما خرجه رواية الحفاظ بعده عنه، وأجمعهم للأحاديث الحافظ السيوطي، ولم يذكر هذه الرواية في الخصائص الكبرى التي جمع فيها كل ما ورد في خصائصه عليه الصلاة والسلام من صحيح وغير صحيح، ولا في الجامع الكبير أو جمع الجوامع، وهو الذي قال أنه لم يترك حديثًا مرويًّا إلا أودعه فيه، وإنما أورد الروايات في كونه صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا بين خلق آدم ونفخ الروح فيه، ولا شيء منها في الصحيحين ولا في السنن الأربع، وأقواها حديث ميسرة الفجر عند أحمد والبخاري في تاريخه (لا في صحيحه) والطبراني والحاكم والبيهقي وأبي نعيم قال: متى كنت نبيًّا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ». وحديث العرباض بن سارية عند أحمد والحاكم والبيهقي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ». قال في المواهب: وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين، فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة: لم نقف عليه بهذا اللفظ انتهى. قال الزرقاني في شرحها: أي انتهى ما نقله من كلام شيخه، وبقيته «فضلًا عن زيادة: وكنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين» قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة إنها ضعيفة، والذي قبلها قوي، ولعله أراد بالمعنى، وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما، والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين، وأنهما كذب، وأقره في النور، والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في وضع اللفظين قائلًا: وناهيك به اطلاعًا وحفظًا أقر له بذلك المخالف والموافق. قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا، وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه ولسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة.انتهى.

    وقد فسر بعض العلماء المتقدمين أمثال هذه الأحاديث بأنها أخبار عما في علم الله تعالى، ولم يرضه التقي السبكي. قال السيوطي في الخصائص[2]: «فإن قلت: أريد أن أفهم هذا القدر الزائد فإن النبوة وصف لا بد أن يكون الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله، وإن صلح ذلك فغيره كذلك؟ (قلت): قد جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإِشارة بقوله: «كنت نبيًّا» إلى روحه الشريفة أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده بنور إلهي. ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاه الله ذلك الوصف بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيًّا» ا هـ. المراد منه.

    ثم أورد بعد هذا التأويل بأنه كان نبيًّا في العلم الإلهي، وهو ظاهر في حديث العرباض الذي يؤيده حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: «أن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ومن جملة ما كتبه في الذكر، وهو أم الكتاب أن محمدًا خاتم النبيين»، والشاهد قوله أن حقيقة نبينا قد تكون مخلوقة قبل خلق آدم، ولو كان هناك حديث يثبت أن نور النبي صلى الله عليه وسلم خلق قبل كل شيء لاحتج به ولم يدع أن حقيقة الإنسان هي شيء غير روحه وجسده ويبني جوابه الثاني على احتمال أن تكون حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم خلقت قبل حقيقة آدم. وهذا الحافظ أبو نعيم وهو قبل السيوطي لم يذكر ذلك الحديث في كتابه دلائل النبوة الذي جمع فيه كل ما رواه في هذا الشأن. وإذا رجعت إلى استقصاء ما رووه في خلق العالم تراهم أهملوا ذلك الحديث، ورووا ما يخالفه كحديث عبادة بن الصامت عند أبي داود والترمذي «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ» الحديث.

    وهو عند ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن عباس: «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ»، وعند البيهقي في الصفات عن ابن عمر، وحديث أبي هريرة عن أحمد والحاكم: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ» لعل المراد كل شيء حي، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30].

    ولهذه الأحاديث أحاديث تعارضها، وليس فيها شيء قطعي الثبوت والدلالة والقرآن صريح في أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففصلهما وخلقهن من مادة تشبه الدخان. ثم إن لحديث عبد الرزاق تتمة فيها أن ذلك النور تجزأ مرات إلى أجزاء خلق منها القلم واللوح والعرش والكرسي والملائكة والسموات والأرضين والجنة والنار ونور أبصار المؤمنين ونور قلوبهم، فمعناه الظاهر أن الله خلق من نوره شيئًا وخلق من هذا الشيء سائر الأشياء حتى نار جهنم، والأرض وما فيها من الجماد والنبات والحيوان، فما معنى كون ذلك الشيء الأول نور محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو فرد من الأحياء الذين خلقهم الله في هذه الأرض التي هي من أصغر الكواكب التي لا يعلم عددها إلا خالقها؟ وما نسبة هذا الفرد الكريم إلى ذلك الخلق العظيم الذي منه العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسموات والأرض والجنة والنار؟ ظاهر الحديث أن المخلوقات كلها هي نور محمد صلى الله عليه وسلم كله، وهو من المخلوقات بالضرورة، فما هي نسبته إلى سائرها أي ما هي نسبة محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب النبي القرشي، الذي بعثه الله تعالى نبيًّا منذ نحو ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن إلى جميع المخلوقات؟ هل هو جزء منها أو كل لها وهي أجزاء له، فيقال إن حقيقة محمد هي مجموعة الكائنات، ومجموعة الكائنات هي محمد بن عبد الله الذي ولد من نحو أربعة عشر قرنًا صلى الله عليه وسلم؟ ثم ما معنى كون هذا من نور الله، وإذا سلمنا بظاهر هذا الحديث فبماذا نُحاجّ من نسميهم كفارًا إذا قالوا: إن واجب الوجود قد انقسم فكان هذه الأنواع من الكائنات؟ ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ[١٨٠]﴾ [الصافات: 180] ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[٨٠]﴾ [آل عمران: 80]. هذا الحديث حديث جابر المروي عن عبد الرزاق لا أصل له، وليس فيه تعظيم لخاتم النبيين، ورحمة الله تعالى للعالمين، بل هو مثار شبهات وشكوك في الدين يعسر تأويلها بما يقبله عقلاء الباحثين.

    ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144] وما الرسل إلا بشر مثلكم، يوحى إليهم ما فيه هداية لكم، وما البشر إلا جند قليل من جنود الله التي لا يعلمها إلا هو قال فيهم: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].

    ورفع بعضهم فوق بعض درجات وجعل أفضلهم أنفعهم لعباده، ففضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم على الناس أنه اختاره من خلقه لهداية جميع الناس في طور ارتقائهم واستعدادهم لاتصال بعضهم ببعض، فهو صلى الله عليه وسلم أنفع الناس للناس ولو كان هو الأصل لجميع المخلوقات، وفرضنا أن هذا معقول أو أنه تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا أن نعقله لصرح بذلك في كتابه المبين، الذي ما فرط فيه في شيء من مهمات الدين، أو لروي برواية صححها جماهير المحدثين، وكل ذلك لم يكن، فانفراد عبد الرزاق بهذا لا يكفي في القول بهذه المسألة التي لا يتصورها عقل، ولا يشهد لها نقل، فإن عبد الرزاق وإن احتج كثيرون بحديثه وروى عنه الأئمة وبجلوه قد جرحه مسلم وغيره. وإليك بعض ما قالوا فيه: قال الإمام أحمد: أتينا عبد الرزاق قبل المئتين وهو صحيح البصر ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بآخره روي عنه أحاديث مناكير. وقال ابن عدي: حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد، ومثالب لغيرهم مناكير، ونسبوه إلى التشيع. وقال الدارقطني: ثقة لكنه يخطئ على معمر في أحاديث. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن عبد الرزاق يفرط في التشيع قال: أما أنا فلم أسمع منه شيئًا، ولكن كان رجلًا يعجبه أحاديث الناس. وقال محمد بن عثمان الثقفي البصري: لما قدم العباس بن عبد العظيم من صنعاء من عند عبد الرزاق أتيناه فقال لنا: ألست قد تجشمت الخروج إلى عبد الرزاق ورحلت إليه وأقمت عنده؟ والله الذي لا إله إلا هو إن عبد الرزاق كذاب والواقدي أصدق منه. أورد الحافظ الذهبي هذا ثم قال: قلت: هذا ما وافق العباس عليه مسلم بل سائر الحفاظ، وأئمة العلم يحتجون به إلا في تلك المناكير المعدودة في سعة ما روى.

    وقال الذهبي في أحمد بن عبد الله ابن أخت عبد الرزاق: قال ابن حبان: كان يدخل على عبد الرزاق الحديث، فكل ما وقع في حديث عبد الرزاق من المناكير فبليته منه، وقد تقدم ذكره، كذّبه أحمد والناس.


    [1] المنار ج8 (1905) ص865-869.
    [2] جلال الدين السيوطي، الخصائص الكبرى.

    فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

    رقم الفتوى: 177 تاريخ النشر في الموقع : 03/12/2017

    المفتي: محمد رشيد رضا
    تواصل معنا

التعليقات

فتاوى ذات صلة